جمعية لبنانية غير حكومية NGO

ذكرى عاشوراء في ضوء نظرية "التكاؤن"

2024-07-30

الأب ميخائيل روحانا الأنطوني

بدعوة من هيئة أبي ذر الغفاري، سماحة الشيخ حسن حماده العاملي، وقفت لأول مرة وجها لوجه أمام حقيقة تخص اللبنانيين الشيعة، لطالما نظرت إلى مجريات الاحتفال بها من لطم وضرب سيوف وسيلان دماء بشكل مريب. ولكن ما كنت دعيت لولا أن قرارا عقليا ووجدانيا رافقني مع تطوير فكرة بناء لبنان جديد قائم على "تكاؤن" مكوناته الطائفية، بعيدا عن أنماط التفكير الماضي التي أسست للعيش المشترك لحوالي مئة عام، والتي منذ خمسين عام وهي تثبت فشلها الذريع في تماسك الدولة ووحدة الوطن.

بالنتيجة، كيف نحوّل أنموذج شعب مكوَّن من مجموعات التقت بدون ميعاد، وتعايشت بدون وداد، وقد تموت الواحدة منها بدون أي حداد من الأخريات عليها، إلى عائلات لبنانية، مدركة انها التقت بميعاد وتعيش بوداد، وإن مَسَّ واحدةً منها مصيبةٌ لبِسَت الباقيات كلها الحداد، معزيَّة إياها بالمحبة الصادقة، مُعيدةً إليها ما نقصها من حياة. هذا هو ما نقصده بنظرية "التكاؤن"،[1] وفعلها "كَأنَ".  فإن أتى الفعل "كان" الماضي الناقص، بمعنى وُجد، حَدث، صار، كما نجد في المعاجم، أتى الفعل "كَأنَ" بمعنى أدركَ،[2] أدركَ المرء ذاته كائنا ناطقا. ومن هذا القبيل يصبح القول التالي ممكنا: كَأنَ كائنٌ نفسه أي أدرك ذاته كائناً ناطقا، الأمر الذي يسهّل عليه القول: "أنا أفكّر إذاً أنا كائن" وليس فقط "أنا موجود". فالوجود حالة تتمتع بها الكائنات كافة، العاقلة وغير العاقلة، اما الكينونة فلا يتمتّع بها سوى العاقل الذي أدرك، وأدرك أنه مدرك قيمة وجوده، وبانه سيد قراره. وهذا ما ينطبق على الحُسين الذي لا تترك سيرة استشهاده شكًا بأنه كان مدركا، ومدركا أنه مدرك بأنه حفيد "النبي" (ص)، وبالتالي عليه أن يتصرف كحفيد نبي.

وفي يَقيننا أن معنى التكاؤُن يفي البعد الاجتماع-سياسي حقَّه إذ إن تطبيقه على أرض الواقع يؤَدّي إلى معادلة تقول: "إما أن نكون معا بالسواء، رأيًا واحدًا ورؤيَةً واحدةً، لا انقسام بيننا، أو لا تكون أمة ولا يكون لبنان". وها نحن اليوم، في ذكرى عاشوراء، نلج هذا الإدراك، نشارك بعضنا البعض كلبنانيين نكسة تسبب بها قوم ما أدركوا عمق رسالة دينهم، ولا قدسية نبيهم، ولا قيمة من أدرك نفسه من سلالة نبي وتربى من والده على قيم الأنبياء، فقتلوه... فكانت النكسة عند الجماعة التي تقدِّرُ الأنبياء، ومن حملوا روح الأنبياء، ولكن دهاها إبليس وما سمح لها بأن تُحسن قراءة الحدث إلا بعد أن حدث. ولو كان الحدث محض تاريخي لقلنا "وهل يفيد الندم والبكاء وجلْد الحال؟" ولكنه ليس كذلك لما فيه من روح النبوءة. فبات حدثا حيّا في الذاكرة، عابرا للتاريخ. بات حالة تدعو إلى التنبه من مؤامرات إبليس لضرب كيان يريده الله أن ينمو ويستمر فيقف له هو، عدو البشر، بالمرصاد كما وقف قبله في وجه كنيسة المسيح ولم يزل. فما بالنا إن لم ندرك بأن عدو البشر يزرع الجهل في كل آن ومكان وزمان، ولا يكتفي بتفسيخ كل مجموعة بذاتها، بل راح يضرب المجموعات التي تحمل السلام والمحبة والغفران ببعضها لمجرّد أن ما تحمله، وما هي مؤتمنة عليه وترغب بنشره، لا يناسبه. أليس في هذا دعوة لكي ندرك مَكمَن الشر ونتداركه ونتكاءَن حتى عمق معرفة بعضنا البعض، ولا نتوانى في البحث المشترك عن الحقيقة على حساب كل تقليد وعادة تحجّر العقول وتُطبقُ على تطوّر الأجيال ونموّها الفكري والأخلاقي والقيَميّ بحسب دعوة أنبيائها وكلمة الله التي تتجسد في تعليم كل نبي يأتي من لدنه؟

نعم إخوتي وأخواتي، عاشوراء أكثر من ذكرى أليمة لجماعة بشرية لم تتمكن من أن تسعف من شيّعته وليًّا عليها فقتل. هي رسالة لحمل القيم التي مات من أجلها ذاك الذي قتل وبات شهيدها، لذا نقول استشهد ولم يُقتل كغيره من الناس الذي يقتلون لسبب أو لآخر. نحمل قيمه ونثمن دم شهدائنا لنشهد بدورنا بأننا من روح الأنبياء الصالحين، نعمل ونفكر ونتعامل مع بعضنا انطلاقا من إدراكنا بأننا حملة رسالة أنبيائنا، ونشهد لما شهدوا له، ولو كلفنا الاستشهاد بدورنا.

نحن اللبنانيون جميعا من هذا الصنف من البشر، حملة رسالة السلام والمحبة وما هو يتخطى العيش المشترك إلى التكاؤن. ولبنان بنا، وفينا، وبما نشهد له من قيم، هو بالفعل أكثر من وطن، إنه كلية العائلة والكرامة في جامعة الإنسان، حيث يليق بالبشر من كل حدب وصوب أن يأتوه ليتخصّصوا فيه بقيم العائلة والجيرة الحسنة ورفض الظلم ووكل أنواع المكابرة، والالتفاف كلبنانيين، بغض النظر عما يفرقنا بالسياسة التي يعشش فيها روح عدو البشر، بوجه كل مصيبة جاعلين من فرح الآخر فرحنا ومن حزن الآخر حزننا، والملك لدى كل من عائلاتنا لله، وأولادنا كلهم يولدون لله، والله يدخل من كل طيات يومنا، وحتى في أحلامنا. والنتيجة تكون عند التخرج من تلك الجامعة بصفة إنسان، فخرُ خالقه ومبعثُ رضاه.

هذه هي رسالة لبنان وهذا هو لبنان الرسالة، وعاشوراء جزء لا يتجزأ من هذا التراث إسوة بيوم الجمعة العظيمة وعيد الأضحى وشهر رمضان وبخاصة عيد البشارة، بشارة السيدة مريم العذراء بالحمل بابنها عيسى الذي لم يولد من زرع بشر بل كان من روح الله، وفتح للإنسانية جمعاء باب الحياة الخالدة منتصرا على عدو البشر، مداويا موت روح الإنسان بإكسير مغفرة الخطايا والمصالحة الثالوثية بين الذات والآخر والله... شاهدا أمامنا على تخطي التاريخ إلى الخلود، أولًا لأنه ما من أحد مات وأخذ معه مالا أو تاجا أو صولجان، وثانيا لأن علّمنا بسلوكه بأننا ولو كنا في العالم نحن لسنا من العالم، ولا يجب أن نسلك سلوك أبناء العالم، فنحن من الله وإلى الله نعود. أمين.  

علمنا الغفران حتى لقاتلينا لأن الله الذي نحن منه، هو وحده القيوم الغفور الديان العادل الذي يدين برحمته الأحياء والأموات.  

هكذا تكون كينونتنا المشتركة التي بدونها لا كينونة لأية وحدة اجتماعية بشرية، وبالتالي لا كينونة للإنسانية ولا للبنان، ونرفع عاليا راية من يلتقون بميعاد ويتشاركون وطنهم بوداد ويموتون بحداد مع الإيمان المطلق بالقيامة، بأنهم إلى نبع الحب والخلود عائدون، وطوبى للحسين الذي أرضى ربه وهو متمتع عنده مع أبيه وجده وأهل بيته، ولكل من على مثاله، يرضي الله.  

                                                          عظم الله أجركم

الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني

                                                  12 تموز 2024

 

 


[1] التكاؤن نظريّة لغويّة مُنطلقها اللّغة السريانية، وُضعت بهدف اكتشاف مصطلح يعبّر عن المشاركة المصيرية، ويرتقي بالجماعة من العيش المشترك إلى وحدة في المصير والمسار مرتبطين باسم الكائن، عزّ وجل، خالق السموات والأرض. فكان الفعل كَأَنَ ومنه المشتقات المتوالدة تكاءن والتكاؤن. (راجع كتاب الجمهورية الخامسة – الحل للمعضلة اللبنانية). ممكن طلبه من مكتبات "مالكس"

[2]  To be conscious

Copyrights © 2024 All Rights Reserved.