جمعية لبنانية غير حكومية NGO

د. هشام الأعور: مجلس شيوخ لبناني .. رؤية تكاؤنية

2024-08-13

الدكتور هشام الأعور

إن البحث في تركيبة مجلس شيوخ لبناني و صلاحياته يرتبط بالبحث في تجربتنا السياسية، وتحديداً في دور الدولة في مجتمع تعددي، وما ينبغي ان تكون عليه الممارسة السياسية لكي تستجيب لما يطمح اليه اللبنانيون من عيشهم التكاؤني.

وعندما قال العلامة الفرنسي Léon Duguit، أن قيمة المؤسسات من قيمة من يتولى شؤونها Les institutions valent ce que valent les hommes، كان يفترض بأن النص على درجة متقدمة من الكمال، والمسؤولية تقع على الممارسة والتطبيق.

 

لقد بيّنت التجارب التي مررنا بها ان السواد الأعظم من اللبنانيين متشبث بالتعددية المجتمعية، على الرغم من الصراعات الدامية التي عصفت في ما بينهم، واللجؤ الى إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية لإغراض محض سياسية لا علاقة لها سوى بمصالح ضيّقة. فالتكاؤن بين اللبنانيين  هو تعبير عن ارادة وطنية جامعة، تقوم على اقتناع كل مواطن  بأن تكاؤنه مع شركائه في الوطن  يعود عليهم بالخير جميعاً. 

 

لقد قامت دولة لبنان الكبير على أساس ميثاق العيش المشترك، ونشأ نظامها وتطور في إطار التوفيق بين المبادئ والقواعد والآليات المعتمدة في الأنظمة البرلمانية من جهة، ومقتضيات العيش المشترك من جهة أخرى، كما قام  نظامنا البرلماني على أساس المشاركة الطوائفية في السلطة كوسيلة لبناء دولة، ترسخ وحدتها وتوفر الأمن والاستقرار وشروط العيش الكريم لأبنائها، على شتى انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والفئوية. فالمواطن هو الغاية، ولا يجوز ان يتحول التكاؤن او العيش المشترك والمشاركة الطوائفية الى غاية على حساب مصلحة المواطن والوطن.
إن دور الدولة في مجتمع تعددي يفوق بكثيرٍ دورها في المجتمعات المتجانسة. فالدولة في المجتمعات التعددية ليست مجرد كيان حقوقي وسياسي ناظم للعلاقات بين المواطنين من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية، وبين مؤسسات الدولة من جهة ثالثة، بهدف توفير الأمن والاستقرار وشروط العيش الكريم للمواطنين، انما هي كيان حاضن للمجتمع التعددي، ومدافع عن وحدته وترسيخها بوجه كل اشكال العنف والتقسيم ، كون الدولة تقوم فيه على جدلية العلاقة بينها وبين الطائفية ، فتقوية الانتماء الوطني وتقدمه على ما عداه من انتماءات فئوية ضيقة شرط أساسي لترسيخ وحدة المجتمع التعددي، وتعزيز وجود الدولة الحاضنة له. ما يتطلب حنكةً وحكمة ودراية ورؤية في ادارة الشأن العام في المجتمعات التعددية، وترفّعاً وسياسات تعتمدها الدولة في مختلف المجالات، بهدف إشعار المواطنين بأن الدولة ترعى شؤونهم وتوفر لهم شروط العيش الكريم، ليقوى انتماؤهم اليها وتترسخ وحدة المجتمع من خلال الدولة. 
ان المشاركة الطوائفية في السلطة عبر مجلس شيوخ هي مشاركة في بناء دولة تلبي طموحات أبنائها في عيشهم التكاؤني ، وليس تشارك في تقاسم المغانم والنفوذ، تتحول الدولة معه الى كانتونات او محميات عشائرية ،فتغدو عاجزة عن القيام بأبسط واجباتها تجاه مواطنيها، الذين لا يعود أمامهم سوى اللجوء الى طوائفهم، فيقوى انتماؤهم الطائفي على حساب الانتماء الوطني، وتقوى الطائفة على الدولة في المعادلة التي تجمع بينهما.
لقد بينت التجربة اللبنانية ان الأحجام عن استحداث مجلس شيوخ في المنظومة السياسية قد ادى الى تعثر المؤسسات الدستورية لا بل من شلل في ادائها، نتيجة الممارسات السياسية المتفلتة من الضوابط، وخروج المشاركة الطوائفية عن مسارها الصحيح وتحويلها الى غاية بذاتها، ما أطاح بها كوسيلة لتعزيز التكاؤن من خلال بناء الدولة. فالصراع على السلطة من منطلقات طائفية او مذهبية، وعدم أخذ المصلحة العامة وشؤون المواطنين بالاعتبار، أوصل الدولة الى ما هي عليه. فكيف يستطيع من هم على رأس المؤسسات الدستورية ان يقوموا بالمسؤوليات التي حمّلهم اياها الدستور، في دولةٍ تتنازعها قوى وأحزاب طائفية، ومؤسساتها الدستورية معطلة، والفساد تمأسس في اداراتها وغدا أقوى منها.
عندما نص الدستور في المادة 22 على "استحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية"، أكد المشترع على طبيعة النظام البرلماني اللبناني، وجعل مجلس الشيوخ في لبنان  مرجعيةً دستورية لها صلاحيات تستخدمها في أوقات الشدة، من أجل الحفاظ على انتظام اداء المؤسسات الدستورية، نظراً لما لذلك من أهمية بالنسبة للمسؤوليات التي حمّلها الدستور لهذا المجلس المنتظر كونه أساس انتظام عمل سائر مؤسسات الدولة، مع العلم ان إعطاء مجلس الشيوخ  هذه الصلاحيات المصيرية لا علاقة له بالتوازنات الطائفية التي يقوم عليها النظام السياسي، وهو يأتي لصالح اللبنانيين جميعاً ويسهم في صون العيش المشترك، لأنه يحول دون تعطيل مؤسسات الدولة، وبالتالي تعطيل مصالحهم.

إن بنية لبنان المجتمعية والتوازنات التي يقوم عليها نظامه السياسي، ومحيطه الجيوسياسي المتوتر باستمرار، والعلاقة بين الداخل وهذا المحيط، كلها عوامل تدفع باتجاه تأجيج الصراعات السياسية وتهديد أداء المؤسسات الدستورية، ما يجعل ايجاد مجلس للشيوخ كمرجعية دستورية قادرة على ايجاد المخارج الدستورية والسياسية عند حدوث الأزمات، أمراً ملحاً.

إن التجربة السياسية والدستورية في لبنان غنية جداً، وينبغي الاستفادة منها، وتحديد الثغرات في نظامنا السياسي، والعمل على معالجتها بمسؤولية وطنية، والسعي الى عقلنة نظامنا البرلماني في إطار الخصوصيات اللبنانية، وفي ضوء التجارب التي مرت بها الدول وأدت الى تطوير أنظمتها الدستورية، وليس من الصعب ابتكار إصلاحات دستورية ، اذا ما توافرت الارادة السياسية، يستقيم معها اداء المؤسسات الدستورية وتنتظم في إطارها العملية السياسية. وفي هذا المجال ينبغي تحديد المفاهيم التي قام عليها النظام السياسي اللبناني وتؤثر في أداء مؤسساته الدستورية تحديداً واضحاً لا لبس فيه، ويأتي في طليعتها مفهوم العيش المشترك او التكاؤن ومفهوم الوفاق الوطني، ومفهوم المشاركة الطوائفية في السلطة. هذه المفاهيم ينبغي تحديدها عند استحداث مجلس شيوخ في وثيقة تضاف الى الدستور اللبناني ليكون لها قيمة دستورية.

إن المطلوب البحث في حلول واقعية، وليس الهروب من الواقع والقفز في المجهول، وأقصى ما نطمح اليه سد الثغرات في نظامنا الدستوري وتطبيق الاصلاحات الدستورية وضبط الممارسة السياسية في حدود المعقول، وانتخاب رئيس للجمهورية ، فالظروف التي تمر بها المنطقة بعد عملية "طوفان الأقصى " لا تسمح بأكثر من ذلك.

Copyrights © 2024 All Rights Reserved.