جمعية لبنانية غير حكومية NGO

هل وثيقة "لقاء الهوية والسيادة" تشكل حقا الحل الأنسب للمعضلة (جزء 2) اللبنانية؟

2024-05-14

الدكتور هشام الأعور

 تكاد مشيخة عقل سماحة العلامة أبو شقرا تختزن معظم التجارِب التي خبرتها طائفته بدمج الديني فيها بالسياسي، والانخراط الوطني في تفاصيل الاحتدام السياسي بشقه الداخلي، في حِقْبَة استثنائية حمّلته مهمة استثنائية أيضأ تحت وطأة أحدات رافقته طيلة سنوات ولايته، وهي مرحلة تشبه الى حد بعيد ظروف المرحلة الراهنة المثقلة بجروح اللبنانيين وانقسام مجتمعهم السياسي والطائفي على وقع الأصوات المرتفعة لتعديل الدستور وطرح مشاريع الحياد والتدويل وصولا الى الفيدرالية والتقسيم. فمَا الجديد الذي أتت به وثيقة "لقاء الهُوِيَّة والسيادة"، وهل توحي بالاطمئنان إلى إقامة وطن مبني على المواطنة السليمة وحماية الصالح العام كالحل الذي تقدمه رؤية الجمهورية الخامسة للدكتور الأب ميخائيل روحانا الأنطوني. ان مشاركة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى عبر ممثله، في إطلاق وثيقة "لقاء الهُوِيَّة والسيادة" برئاسة البطريرك الراعي في بكركي، يشير في قراءة أولية الى ان مشيخة العقل، وهي تراقب احتدام الصراع السياسي، قررت سلفا الانحياز الى احد خيارات المواجهة التي سرعان ما رسمت نظامًا دستوريًا متكاملًا. لكن الشيخ أبي المنى يدرك جيدا ان دستور الطائف قد افقد المسيحيين عمومًا موقعهم التاريخي في الاضطلاع بدور جامع لحماية كيان لبنان واستقلاله، فإذا بخسارة صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، والانقسام المسيحي على نفسه، قد ضاعف عبء التناقضات الوطنية، وجرد الموارنة من حضورهم الفاعل، وأفقد لبنان العلاقات المتوازنة بين طوائفه وحصانة وحدته الوطنية، ووضعها في مهب العواصف. لذلك كان من الأجدى على المؤتمرين في بكركي التفتيش عن معادلة اكثر واقعية من اجل الحفاظ على التعددية في لبنان، وهي أن ليس لفئة ان تستأثر بحكم هذا البلد وتستثني أخرى، ولا لطائفة ان تستبعد الطوائف الأخرى، او ان تعزل طائفة كأنها غير موجودة. وفي هذا المجال، أكثر ما يحضرنا، بعد أن اطلعنا على معظم المشاريع المقدمة لإنقاذ لبنان من معضلته التاريخية، هي رؤية "الجمهورية الخامسة" التي تشير الى فذلكة "تكاؤنية" تقوم على تمييز المذاهب الستة الأساسية التي يعدّدها حَسبَ أقدمية بروز دورها على أرض لبنان: الأرثوذكس، الموارنة، السنة، الشيعة، الدروز، الملكيين، بمساواة سياسية على صعيد المراكز القيادية الخمسة الواردة أيضا في الدستور الحالي: رئاسات الجمهورية، الحكومة، البرلمان، الشيوخ، الاقتصادي الاجتماعي، مع تعديل صلاحياتها بشكل يسمح لها بالتعاون المتوازن من دون أي مجال للتعطيل، وإضافة قيادة الجيش إليها نظرا لأهمية تحريرها، هي أيضا، من القيد الطائفي. مما لا شك فيه، أن تبادل الرئاسات بين الطوائف الست الآنفة الذكر هو أكثر واقعيّة، بل وأكثر أخلاقيّة حتّى، من موقف الذين لا يزالون مرابطين خلف هذا النّظام الطّائفي الفاشل. وكما رددنا في مقالات سابقة، فإنّنا أميل ـ بالتّأكيد ـ إلى الطّرح المبني على مفهوم "التكاؤن" ضمن الدّولة الواحدة والمركزيّة. وقد شرحنا سابقًا أنّنا من دعاة السّير بمبادئ "الجمهورية الخامسة" في هذا الاتّجاه، ولو بالتّدرّج، إذ يمكننا أن نسير باتّجاه دولة "التكاؤن" من خلال “جرعات” معيّنة من التّعديلات الجوهرية على النّظام الطّائفي المهترئ الحالي. إذن: فطرحنا هو، بوضوح، طرح دولة المواطنة الواحدة والمركزيّة، مع اللاحصرية الواسعة في الخِدْمَات الرسمية، المدنية والقضائية، المراقبة من أعضاء مجلس الشيوخ المنتخبين في كل قضاء لهذا الهدف، وهذا ما نفكّر ونحلم به، بالنّسبة إلى وطننا كما بالنّسبة إلى أهلنا اللبنانيين كافة، وإلى أولادنا من بعدنا. لستُ أعترضُ على هذا المشروع الذي اعلن عنه البطريرك الراعي إلّا لسبب رئيس، ألا هو: عدم تأكّدي العقلاني، وعدم إيماني الحدسي والقلبي، بما أسمّيه الفرضيّة المؤسّسة لهذا المشروع في لبنان. وبغية تسهيل إيصال الفكرة والمُراد، أقترح رفع اعتراضي هذا من خلال سؤال محرج يخص طائفتي التي أحب وأقدر كما كل لبناني يشعر تجاه طائفته، آملًا في أن يكون الجواب علميًا ومبنيًا على المنهجيّة المتقنة كما على احترام الآخر: هل يوجد دراسات علميّة ـ أكاديميّة ـ تاريخية لا سيّما في مجال السّوسيولوجيا أو علم الاجتماع ـ يمكنها ان تنفي حقيقة ان الموحدين الدروز هم طائفة كيانية كان لهم الدور الكبير في نشأة الكيان اللبناني؟ إنّ الهدف من طرح السؤال هذا هو من اجل النّقاش وليس التّحدّي والتفلسف لمجرّد التّفلسف. إلى اليوم الذي يقنعني فيه أصحاب طرح إسناد رئاسة الجمهورية الى مسيحي ورئاسة مجلس النواب الى مسلم وكذلك رئاسة مجلس الوزراء الى مسلم دون تحديد مذهب كل منهما، مع عدم إسناد رئاسة مجلس الشيوخ الى طائفة الموحدين الدروز، أو تبادل الرئاسات الأربعة بالتساوي وبحسب الكفاءة، ضمن نظام حزبي-انتخابي ديمقراطي سليم، سوف أبقى بطبيعة الحال، وكغيري من اللّبنانيّين مؤيدًا لطرح "الجمهورية الخامسة" الذي أعتبره ميزان الحلول. وإلى أن تنجلي الأمور، وأعتذر ممّن قد يستفزّه قولي: أعتبر مشروع "لقاء الهُوِيَّة والسيادة" نسخةً جديدةً من طروحات البروباغندا ألإعلامية التي تساعد على تشتت أكثر المسيحيين وعدم الاعتراف بحقوق الطوائف ومن بينهم طائفة الموحدين الدروز. وكأنّنا، في هذا البلد، وجميعًا، لا نتعلّم من التّجارب السّيّئة والإيجابيّة على السّواء. أعجب صراحةً لتصرّف بعض المرجعيات الحاليّة، القائم على ما يمكن تسميته بسياسة النّعامة تجاه النّظام الحالي الفاشل من جهة، والسكوت عن تحجيم دور طوائفهم في التركيبة السياسية. نحن، من جهة، أكيدون أنّ النّظام الحالي مُنتَهِ الصَّلاحِيَة، لكن مع وقف تنفيذٍ إقليمي ودولي؛ ومن جهة أخرى، أن إبراز الطّرح الذي ايده البطريرك الراعي، بحضور ممثل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، إعلاميًا، خصوصًا في هذا التوقيت، هو تأكيد على هذه الحالة. ولكن مهلا، لا يستخفن أحد بمن لديهم العلم، والمعرفة، والغيرة على وطنهم ومستقبل فلذات أكبادهم. نعم، نُقرّ بأنّ النّظام الحالي قد سقط وفشل، ولا يُمكن أن يستمرّ بطبيعة الحال؛ لكن لن نقبل بأن نذهب في اتّجاه تعديل أو تغيير له بما يضعف ويساهم أكثر في انقسام المسيحيين الذين بتوحدهم يشكلون مصدر قوة لبقية الطوائف في لبنان. لذلك نقترح على أصحاب وثيقة "الهُوِيَّة والسيادة" رؤية "الجمهورية الخامسة" كبديل وكخيار تكاؤني". أو لنبقَ على ما نحنُ عليه، فيكون افضل بكثير من هذا المنطق غير الواقعي والانغلاقي (والرّجعي ربّما). ولكنّ البقاء ضمن "سياسة النّعامة" المذكورة أعلاه هو، برأيي، شديد الْخَطَر، وخطيرٌ جدّاً. والاستمرار في التّحصّن خلف نظام غير واضح كالنّظام الحالي الذي يطرحه المؤتمرون في بكركي قد يذهب بنا بعيداً ضمن جوّ ماكيافيلّي لا يخدم مصلحة الموارنة والدروز، ويدخلهم في لعبة موازين قوًى يشكلون فيها اول الخاسرين. لذلك، أعتقد بصدق وبأمانة، أنّ عدم سير المجتمع الدرزي في طليعة المطالبين بتطوير النّظام السّياسي الحالي بهدف الوصول إلى دولة المواطنة العصريّة وغير الخاضعة للتمييز الطائفي بين الأرفع، والدون، بين الأكثر أهلية، والأقل أهلية، سوف يجعل العامل الأساسي الذي سيحكم المستقبل، التظلم وإشكالية الدونية والفوقية، والانتماء إلى كل من في الخارج قادر أن يفرض العدالة في الداخل، أي عامل موازين القوى الاقليمية والديموغرافية، وليس منطق أهل الحكمة والتعارف والسلام التي تضمنهما الأديان، والتي هي نواة رسالة لبنان المميزة. وستكون النتيجة العودة إلى الصراعات المدمّرة بهدف التعديل عاجلاً أم آجلاً، لكن ليس حكما في الاتّجاه الصّحيح وانما من خلال مفاهيم ملتوية كالمثالثة او المرابعة. من هنا، ندعوا، من باب الحرص على البلاد ومستقبلها، المرجعيات الروحية والسياسية جميعاً إلى الاستيقاظ من هذه المحاولات العقيمة، وليستعيذوا بالله من غفلة النّفس الأمّارة بالسّوء "إلّا ما رحمَ ربّي": وليذهبوا بهذا الوطن نحو دولة المواطنة الواحدة والمركزيّة والعصريّة. ولنخرج، مع "بكركي" وحول صاحب الغبطة البطريرك الماروني والمرجعيات الروحية كافة التي ستكوّن لبّ مجلس الشيوخ الموعود، من هذه الظّلمات ومن أوهام موازين القوى. والأعراف، إذ "إنّ الدّهرَ يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك"، و"تلك الأيّام نداولها بين النّاس، فلو دامت لغيركَ لما آلت إليك". وختما أدعوا أصحاب السيادة والسعادة منظري وثيقة "لقاء الهوية والسيادة" إلى التريث ودعوة الآخرين للتفكير سوية حول العروض الإنقاذية لوطن الرسالة، فما من طائفة في لبنان إلا وفيها كفاتها من المتخصصين بالعلوم السياسية وأصحاب الأموال والنشاطات الاقتصادية، كما لا يجب أن يكون فيه تمييز بين مؤمن بالله وآخر إلا بمقدار التزامه بالعبادة الصالحة وبالبناءة للسلام والمحبة، ولنتحاور على أعلى مستوى علمي حول أفضل المشاريع الدستورية والانتخابية وننطلق بلبنان، ليس أبدا كما كان قبلا.

 

Copyrights © 2024 All Rights Reserved.