جمعية لبنانية غير حكومية NGO

البروفسور رزق زغيب - قراءة في مطالعة النائب علي فياض

2024-08-05

بروفسور رزق زغيب

قراءة في مطالعة النائب علي فياض

        لا بدّ بداية من تثمين مبادرة النائب الدكتور علي فياض والتي تشهد له مسيرته الراقية على الصعيد الاكاديمي والسياسي والبرلماني علواً في التفكير وترفعاً في المقاربة ودماثة في الخلق . وها هو يثبت ذلك مرة اخرى ، فالرجل الملتزم سياسياً وعقائدياً وحزبياً لم ينكفئ الى الدائرة الضيقة المكوّنة من الحزب او الطائفة او المنطقة بل تجاسر على كل اشكال الانغلاق على الذات وذهب بخطى جريئة وواثقة في آن لملاقاة الآخر في الوطن محاولاً ، على طريقته ، تهدئة هواجسه  وطمأنة مخاوفه بهدف اجتراح الحلول "نحو استقرار ممكن في ظل نظام اقليمي جديد" .

        اراد الكاتب في المحاضرة التي القيت في حركة التجدد الوطني في 1/6/2024 والمنشورة في جريدة الاخبار في عدد الخميس 27 حزيران 2024 (صفحة 9 و10) مقاربة الوضع اللبناني "من الناحية السياسية وليس الاكاديمية" فتناول مفاهيم متعلقة بالموقع  والدور على ان الاول "اكثر انشداداً للحقائق الصلبة الكبرى فيما الثاني يخرج من الفعل السياسي وهو اكثر تأثراً بالسياسة والوقائع المتغيّرة" .

        كما حدد النائب المفكر ثلاث مستلزمات لانجاح أي حوار او مبادرة او عقد طائفي جديد وهي : "المصارحة والمسؤولية والتوافقية على ان تكون المقاربة المنهجية الحالية بعيدة عن المنهجيتين البائستين السائدتين لبنانياً اي مقاربة المجاملات ومقاربة الشعارات" .

        بناءً عليه قارب المحاضر الوضعية اللبنانية في بعديها الداخلي ، المحصور حسب وجهة نظره بالطوائف ككتل متراصة ، مصّنفاً اياها بحسب هواجسها وكيفية طمأنتها ، والخارجي مرتكزاً على قراءة في الاقليم وموازين القوى الجديدة في المنطقة المبنية بالمختصر على افول النظام الليبرالي الاميركي الامر الذي ينسحب بالتالي ايضاً على حلفائه في المنطقة وفي طليعتهم الكيان الاسرائيلي وصعود متنامي لمحور المقاومة وعلى رأسه الجمهورية الاسلامية في ايران مدعومة من الصين الشعبية وباقي الحلفاء ، داعياً اقرانه اللبنانيين بشكل لا يدعو الى اللبس الى فهم اللحظة التحولية التي تمرّ بها المنطقة وعدم الخطأ في الحسابات .

        وفي هذا السياق يجدر التنويه بامانة الكاتب العلمية والتي تتجلى باقراره الصريح انه بالرغم من التقدم على الصعيد الجيوسياسي لمحورالمقاومة فان هذا المحور يواجه صعوبات جمة على الصعيدين الجيواقتصادي والجيواجتماعي ما ينذر بتحوّل الهشاشة الدولتية في لبنان الى هشاشة مجتمعية تؤدي الى صوملة الوضع اللبناني وتفتيته اكثر فاكثر .

        ولم يفت الكاتب تركيز منطلقات اي حوار مطلوب بين اللبنانيين على ارضية مشتركة تتسّم عامة بالسلبية وتذكّرنا بلاءات ميثاق 1943 التي لا يمكن اختصاره بها ، وهي رفض التوطين والتوجس من آثار النزوح السوري ومناهضة استمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وغيرها من الاراضي اللبنانية ودرء اي خطر يهدد الموارد اللبنانية في الآبار الغازية والنفطية والعمل على ترميم العلاقات بين لبنان والدول العربية . كما يتطرق الى علاقة الدولة بالمقاومة فيجد "ان المقاومة لم تسعَ يوماً الى الزام الحكومة اللبنانية بتحالفاتها وخصوماتها ، ولا دفعت باتجاه ان يكون تموضع لبنان الرسمي في النظام الاقليمي حيث تتموضع المقاومة نفسها" . ليعود ويؤكد الى ان "دائماً ما نظرت المقاومة الى اهمية الانسجام والتكامل بين الدولة والمقاومة مع ابقاء مساحة فاصلة بينهما اذ لا تصل العلاقة بينهما الى حد المطابقة التي تلغي الهوامش التي تخدم المصالح وتراعي الخصوصيات اللبنانية" . ثم يخلص الى طرح سؤالين كبيرين "سؤال الدولة وسؤال الحماية والسيادة" الاول بنظره "يتعلق بالحاجة الى الاصلاح البنيوي بالمعنى العميق للكلمة ، والثاني يتعلق بالحاجة الى المقاومة"، مما يستدعي وفق تصوره استجلاب الحاجة الحيوية الى منهجية تبادل الهواجس والضمانات بين المكونات، فيعود الى ما بدأ فيه محاضرته القيّمة .

        فبالاشارة الى ما تقدم ، ولسلامة النقاش ، يقتضي بداية التوقف عند بعض المصطلحات والتعابير بهدف تعريفها وتحديدها بشكل دقيق لزوم ان يكون اي حوار واضح المعالم وهادف المرمى .

        من نافل القول ان النظام الدولي قد تطور خلال القرون الاربعة الماضية نحو نظام مبني على اساس دولتي . حيث ان الدولة الحديثة او الدولة السيدة ذات المواصفات المحددة والتي تكرّست رسمياً مع معاهدات وستفاليا لعام 1648 ، باتت الحجر الاساس في العلاقات الدولية ، وما زالت، وبالرغم من التطور المضطرد والنمو المذهل للشركات العالمية الخاصة والاسواق المالية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية  ، الفاعل والمحرّك الاساس لهذه العلاقات ، وهي بلا شك تأخذ مدى اوسع وحيّز اكبر عند اندلاع الحروب وانتشار الاوبئة والكوارث الطبيعية ، ليخّف وهجها في زمن النمو الاقتصادي والسلام العالمي لصالح المنظمات والهيئات العابرة للحدود والتي هي اساساً وليدة الرأسمالية العالمية .

        وتبقى الدولة بسيادتها التامة قانوناً، والنسبية واقعاً، في عالم مترابط اكثر فاكثر رغم التمايزات الآخذة في الإتساع ، الإطار الاوحد والرمز الساطع لتحقيق ارادة الشعوب واستقلالها والتعبير عن كل ما تختزنه من ثقافة وغنى فكري ومادي وحيوية على الساحة الدولية . وتقتضي الملاحظة في هذا السياق ان نشوء الدول واضمحلالها وتبدّل الحدود السياسية للجغرافيا في النظام العالمي الحالي ليس بالعملية السهلة ، فهو نتاج تراكم نضالي طويل وحصيلة لحظة تاريخية محددة تسمح فيها الموازين الدولية من حصول هكذا حدث . فبعد ان كان عدد الدول لا يتعدى العشرة دول فيززلقرن السابع عشر ، جلّها في القارة الاوروبية، ازداد العدد بعد ان عمّ اميركا اللاتينية اولاً في بداية القرن التاسع عشر ثم اصقاع المعمورة كافة في القرن العشرين مع حركة الانعتاق عن الاستعمار ، فارتفع عدد الدول من خمسين في بدايته الى اكثر من مئة وسبعين في نهايته دون ان يعني ذلك بتاتاً سهولة تمكن الشعوب من بلورة دولها. والامثلة على ذلك زاخرة ، فالشعب الكردي الذي يشكل كتلة بشرية هامة ممتدة على بقعة جغرافية متلاصقة ومتشظية على اقاليم اربع دول متجاورة ، وذات ارادة استقلالية واضحة ومستمرة ، غير قادر حتى تاريخه على تكريس فكرة استقلاله ضمن دولة سيدة في اروقة مراكز القرار الدولي . ولعلّ المثال الابرز والاقرب لنا في هذا السياق يكمن في نضال الشعب الفلسطيني الممتد على نحو قرن من الزمن والهادف الى اقامة دولة تُعبّر عن وجوده واستقلاله ، وهو مبتغى توالت الفصائل الفلسطينية على حمل لوائه دون التمكن من تحقيقه حتى تاريخه بالرغم من الدموع المنهمرة والدموم المراقة والانجازات البارزة مما يذكّرنا بشعر الجواهري:

خلــي الـــدم الغالـــي يسيــــل                        ان المُسيلَ هو القتيل  

برك الدماء عن المواطئ                             حرّة ثمنـــاً قليــلُ

        وعليـه يظهر جلياً ان الثابت الوحيد في الكيان اللبناني كما في أي كيان آخر هو الدولة التي لا يمكن ان تكون انتقالية على ما يتفضل به النائب فياض مستعيناً بادبيات ماركسية في هذا المجال وذلك على عكس بعض مظاهر النظام السياسي التي يمكن ان تكون انتقالية ، اما المقاومة فهي مؤقتة وعلّة وجودها تكمن قانوناً وواقعاً في انعدام قدرة الدولة على القيام بما يتوجب عليها للحفاظ على السيادة الوطنية واستقلال ووحدة وسلامة اراضي الجمهورية . فطرح النائب فياض "لسؤالين كبيرين سؤال الدولة وسؤال الحماية والسيادة" وكأنهما إطارين مختلفين لا علاقة عضوية قائمة بينهما طرح يجانبه التوفيق بنظرنا ذلك ان الاول ينبثق من الثاني لتصبح معه السيادة خاصية اساسية وحصرية من خصائص الدولة ، حيث ان مفهوم الدولة ومفهوم السيادة ، كالجسد والروح ، صنوان لا ينفصمان .

        فالسيادة التي كانت تعود سابقاً الى الحاكم وحالياً الى الشعب الذي يمارسها عبر المؤسسات الدستورية ، اذ يوكلها بصفته صاحب للسيادة  ومصدر للسلطات ممارسة وظائفها كافة من اعمال الحكم اليومية وصولاً الى حسم وتحديد التوجهات الكبرى والخيارات المصيرية التي تعني جمهور الرعية باكمله ، فتصبح الدولة حاملة للسيادة وحامية لها . ويبقى من القصور في مكان حصر السيادة بالدفاع عن الارض او المقاومة ، فبالاضافة الى هاتين المهمتين الاساسيتين يخول مفهوم السيادة الدول اصدار العملة الوطنية وتولي القضاء بين الناس واعادة توزيع الثروات وتنظيم الموازنات وحماية الحريات الفردية منها والجماعية ...

        ومن الثابت تاريخياً انه عندما تنتصر المقاومة على المحتل او تحقق طموحات شعبها بتقرير المصير وانشاء الدولة ، تصبح المقاومة هي الدولة، اي تستلم زمام الحكم عبر ارساء نظام سياسي جديد . اما في لبنان فقد نجحت المقاومة في تحرير الارض في ربيع العام 2000 ، وقد استلمت الحكم في ما تمثله طائفياً من حصة في النظام اللبناني وذلك على أثر الانتخابات النيابية في عام 2005 وحتى تاريخه حيث ينحصر التمثيل النيابي والوزاري للطائفة الشيعية في تنظيمي حركة أمل وحزب الله المتحالفين بشكل وثيق . ومن هنا يستحيل اعفاء المقاومة من مسؤوليتها في ادارة البلاد وتحميل كل اوزار الحكم واخطائه الى باقي الطبقة السياسية كما ذهب النائب فياض اليه بقوله "في التحليل العميق لحالة تداعي الدولة والانهيارات الاقتصادية والمالية وانحدار آداء الطبقة السياسية سنجد ان لا شأن للمقاومة  في كل ذلك" . فالمقاومة مسؤولة بقدر مشاركتها في الحكم شأنها شأن باقي الاطراف السياسية اللبنانية . ولو كان للمقاومة الاسلامية في لبنان مشروع سياسي متكامل ومتناسق ذات امتداد وطني يضاف الى العمل المقاوم اليومي فلربما استطاعت استلام السلطة باكملها ، الامر الذي يحتّم علينا التطرق الى التركيبة الطائفية اللبنانية التي اشار اليها بوضوح السيد فياض في محاضرته عبر ارسائه معادلة الطوائف والهواجس وتبادل الضمانات . فلكانت هذه المقاربة قد صحّت لو كانت الطوائف اللبنانية التي تشكل أساس تكوين العقد الاجتماعي اللبناني مقفلة ومغلقة يحكم كل طائفة الرأي الواحد فتجتمع الطوائف عبر تياراتها او احزابها الممثلة الحصرية لها وتعقد تسويات وتوافقات ذات طبيعة طائفية لتركيز حكم البلاد تقوم على قاعدة تبادل الضمانات والهواجس . ان هذه النظرة تتنافى مطلقاً مع حقيقة لبنان العميقة والتاريخية والتي هي في اساس تكوينه عنيت بها الحرية . فالحرية ليست حكراً على المجموعات بل هي في الاساس من سمات الافراد . ان اختزال المجتمع اللبناني في طوائف مغلقة ينفي الحرية الفردية للمواطن اللبناني كما يلغي التعددية داخل الطوائف والمكونات المجتمعية في لبنان . فبهكذا معادلة طائفية بحتة لا مكان لاحزاب علمانية او قومية او يسارية او ليبرالية حتى . وهذا ما يناقض مساراً تاريخياً خبرته الحياة السياسية في لبنان منذ ما يزيد عن القرن . وبالفعل لا يجب ان يسهى عن بالنا ان النظام السياسي السائد حالياً في لبنان وإن بشكل انتقالي هو نظام طوائفي في قالب برلماني حيث تتمثل الطوائف التي يتكوّن منها المجتمع اللبناني ، بموجب ميثاق العيش المشترك ، في وظائف الدولة السياسية والقضائية والادارية وفق آليات دقيقة حُددت نصاً او عرفاً . وتجري موائمة هذا المعطى مع مبادئ النظام البرلماني القائم على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، فتتولى الحكومة التي تتمتع بثقة اغلبية مجلس النواب الحكم تحت رقابة السلطة التشريعية . ولا غرو في القول ان مراقبة الحياة الدستورية والسياسية في لبنان على مدى قرن تشي بان النظام السياسي اللبناني ما كان ينعم باستقرار ينتظم معه عمل المؤسسات الدستورية بشكل ملحوظ الا في الفترات التي كانت تتموضع فيها الجهات السياسية المختلفة في تيارين او تكتلين اثنين عابرين للطوائف يتناوبان على السلطة ، فتتكون اكثرية سياسية متعددة الطوائف تتولى الحكم ، واقلية على نفس الدرجة من التنوع تقوم بمهام المعارضة ، فتستقيم آلة الحكم ولا يتعرض الكيان للتصدع نتيجة شعور طائفة بانها خارج السلطة ، ذلك ان اقطابها السياسيين يتوزعون بين موالين ومعارضين وان باحجام مختلفة . وما هيمنة الكتلتين الدستورية والوطنية على الحياة السياسية في عهد الجمهورية الاولى التي تميزت بالرقي ، والنهج الشهابي من جهة والحلف الثلاثي وكتلة الوسط من جهة ثانية إبان الجمهورية الثانية الا مثال ساطع على ذلك ، ولا يجب علاوة على ذلك ان يغيب عن الأذهان ان كميل شمعون كان زعيماً شيعياً فيما شكل فؤاد شهاب قبلة لكثير من السّنة ، أما كمال جنبلاط ورفيق الحريري فكان لهما اتباع كُثر من شتى الطوائف .  وتظهر التجربة ايضاً ان هذا الاستقرار ما كان يلبث ان يهتز ويتلاشى الا حين يفرط عقد هذا البنيان السياسي بجناحين العابر للطوائف  ، ويعود التمثيل السياسي الى التشظي في عدد من الكتل النيابية التي يغلب عليها الطابع الطائفي كما هو حاصل الان ، فتقع ازمات سياسية تاخذ فوراً منحى طائفي وما تلبث ان تنزلق الى منزلقات خطيرة يضطرب معها حابل الامن مع ما يستدعي ذلك من "تفاهمات ومعالجات وتسويات عابرة وعائمة تقدم حلولاً مؤقتة وظرفية للازمات اللبنانية ولا توقف المسار الانحداري العام بواقع الدولة وما يتصل بها مؤسساتياً ووظيفياً" او حتى  البحث عن تطمينات ترضي الهواجس والمخاوف على ما يقول النائب فياض . وفي ايامنا الحاضرة ، خاصة منذ العام 2005، على أثر انتهاء عهد الوصاية السورية في لبنان بلغ هذا الانقسام العامودي بين مكونات المجتمع اللبناني حجماً غير مسبوق لا سيما في فترة بروز تكتليّ 8 و14 آذار على ضوء انتظام اكثرية ملموسة من ناخبي الطوائف المحمدية ، السنية والشيعية والدرزية ، داخل تشكيلات سياسية احادية ، انحصر او كاد ينحصر تمثيلها السياسي عبرها، بحيث بات لكل طائفة حزبها او تكتل احزابها ينطق باسمها ويعبّر عن هواجسها ويطالب بالمشاركة في الحكم من منطلق تمثيله الحصري لها الذي يُمنع على احد منازعته عليه ، فبات تمثيل مجمل هذه التنظيمات ، على تناقضاتها ، ممراً الزامياً لتأليف الحكومات التي درجت العادة ان تطول فترة تشكيلها أمداً لا يراعي أي مهل معقولة وان تصعب ادارتها متى شُكلت كونها تضم اضداداً ، فيتبخر فيها مبدأ التضامن الوزاري ، وتصبح آلية اتخاذ القرار وفق ما تنص عليه الفقرة الاخيرة من المادة 65 من الدستور متعثرة على أبعد حدود . ان هذا الواقع يقضي ايضاً على مبدأ تداول السلطة مع ما يرافقه من تفشي الفساد كظاهرة طبيعية للاستمرار اللامتناهي في الحكم من قبل الجهات عينها . وقد بلغت الامور ذروتها في العقد الاخير حيث باتت الحكومات اشبه بمجلس ادارة طوائف اكثر منها حكومة في نظام برلماني  ، فضلاً عن ان فترات تصريف الاعمال من قبل الحكومات قد فاض حجمها عن ما يزيد عن ربع السنين العشرين الماضية . ان هذا الوضع المأزوم لآلة الحكم والذي بلغ مبلغاً لا يطاق، بات يهدد أسس النظام السياسي في لبنان ويجعله غير قابل للاستمرار في صيغته الحاضرة ، فبدأت ترتفع اصوات تنادي باعتماد خيارات جذرية تصل الى حدّ المطالبة بادخال تعديلات جوهرية على النظام الحالي الذي بات يتراءى للبعض انه يلفظ انفاسه الاخيرة . فلا بد من اعادة انتظام الحياة السياسية في البلاد بين تكتلين سياسيين عابرين للطوائف ، فتتمكن اكثرية نيابية مركبة ، متراصة سياسياً ومتنوعة طائفياً ، من الحكم تحت رقابة أقلية تسعى بدورها الى أن تتحول الى أكثرية . ذلك هو المدخل الاجباري لاعادة توفيق مستلزمات التمثيل الطائفي المستمدة من ميثاق العيش المشترك مع آليات عمل نظامنا البرلماني بحيث تتمكن عجلة هذا النظام من الدوران باستمرار . وهذا المبتغى لا يتأمن الا من خلال تحقيق تنوع سياسي داخل كل طائفة ينعكس تمثيلاً نيابياً تحت قبة البرلمان ، بحيث تتحالف اكثريات طائفية مع اقليات طائفية اخرى تتمتع بتمثيل نيابي غير مشكوك بشرعيته ، فتنشأ تكتل على مساحة الوطن قادر على الحكم ، دون ان تشعر طائفة ما لم يحالف الحظ الاكثرية فيها من دخول جنة الحكم بالغبن والابعاد ، ذلك ان تمثيلها داخل مؤسسات الدولة يبقى مؤمناً ، فتنظم الحياة السياسية ويخضع مفهوم السلطة من جديد لمبدأي المسؤولية والتداول ، ويصبح هناك قناعة لدى المواطنين ان الحكم الذي يرعى امورهم شرعي وفعّال في آن . ولا غلو في القول انه يقع على كاهل المقاومة حِمل ثقيل على هذا الصعيد أذ على مكّونها السياسي ان يسعى بكل طاقته لتكوين هكذا تكتل عابر للطوائف بدل ان يذهب مذهب تفضيل الحصن الطائفي الحصين بحيث يحوّل الطائفة الشيعية الى قلعة مقفلة ، الامر الذي يستجلب ردّة فعل مشابهة لدى الطوائف الاخرى مع ما يشكله من مدخل الزامي للتصادم بينها وينعكس سلباً على فكرة المقاومة مفهوماً ووظيفة ، وتحلّ الهواجس محل المشاريع السياسية الرامية الى النهوض بالبلاد والعباد ، وتتكرّس المخاوف الوجودية بدل نشوة الانتصارات الانتخابية ، فيصّح حينها ما جاء على لسان المفكر والوزير والنائب السابق ادوار حنين حين قال "في كل مرة يستقل لبنان يهتز وفي كل مرة تحميه حماية يعتز" ، ملّمحاً الى حقبات المتصرفية والانتداب ونضيف اليها الوصاية السورية حيث ساد فيها استقرار اكتفى خلاله اللبنانيون بصورة السلطة وبهرجتها متخلين عن جوهرها الى الغريب او الشقيق . صحيح ان لبنان بلد يتكوّن على حدّ قول ميشال شيحا من أقليات طائفية متشاركة كاطراف عاقدة للميثاق الوطني الذي تقوم عليه أسس الدولة المستقلة ، الا ان هذا التنوع يتميز بالانفتاح وليس بالانغلاق بدليل ان النظام السياسي القائم في لبنان ، وعلى عكس ما هو متداول وشائع وسائد ، ليس بنظام ديمقراطي توافقي حيث ان أي من الطوائف في لبنان لا تملك حق النقض لوحدها بموجب النص الدستوري والنائب وان خُصص مقعده لطائفة الا انه لا يمثلها تحت قبة البرلمان بل يمثل الامة جمعاء . ان الإيغال في ممارسات الحكم التوافقي المرتكزة على حصرية تمثيل الاحزاب لطوائفها يشلّ قرار الحكم في الحد الادنى ويدفع نحو الصوملة كحد اقصى فيعيق الدولة على حد قول النائب فياض مما يدفع المقاومة لزاماً الى محاولة إبقاء هامش حركة خاصة بها وتسعى الى ابقاء مسافة فاصلة بينها وبين مركز القرار في الدولة فلا تصل العلاقة بينهما على ما يشير الكاتب ايضاً الى حد المطابقة خوفاً اساساً من شلّ حركتها على ما نعتقد جازمين . فبقدر ما تعود عجلة اتخاذ القرار الى الدوران بقدر ما يعود الحكم خيار فقرار فاعل ، فتصبح الاستراتيجية الدفاعية كحل مرتجى ذات جدوى .

        وفي هذا السياق لا يسعنا الا التنبيه ان نقاط التلاقي بين اللبنانيين تتجاوز بكثير النقاط الخمس التي حددها النائب فياض حيث ان ما يجمع اللبنانيين من قواسم  مشتركة وتاريخ مشترك ونضالات وتضحيات مشتركة ومصالح مشتركة وثقافة حرية وابداع والتي لم تكن الليالي اللبنانية التي احتضنتها ادراج بعلبك منذ العام 1957 في عرين المقاومة اولى تجلياتها ، أكبر من أن يُحصر في هذه النقاط الخمس .

        ومن ناحية اخرى ، لا يمكننا الا ان نضيف الى شروط الحوار التي اشار اليها النائب فياض وهي "المصالحة والمسؤولية التوافقية" شرط أساسي وبديهي لسلامة أي حوار وصحته وهو المساواة او التكافؤ بين المتحاورين بحيث لا يشعر أحد بأي فائض او نقصان في قوة الموقف الذي يحمله تجاه باقي الافرقاء.

        لا شك ان مبادرة النائب فياض في غاية الاهمية فالمقاومة وبحسب موازين القوى الاقليمية والمحلية باقية على ما يبدو ومستمرة وهي لا شك ايضاً عنصر قوة للبنان يمكن التعويل عليه في الصراع المرير القائم مع العدو الاسرائيلي كما انها قامت بكل ما يقتضيه الواجب لحماية لبنان من الخطر التكفيري والارهابي في الامس القريب . فان كانت المقاومة اليوم حاجة وطنية لبنانية قبل كل شيء ، الا ان السؤال الذي يبقى جاسماً على صدورنا ، والذي لم يقدم النائب فياض اجابة شافية عنه هو كيفية الموأمة بين مشروع بناء الدولة ومشروع المقاومة بحيث لا تنهك الثانية الاولى لانها بحاجة ماسة اليها شأنها شأن حاجة الشعب اللبناني لدولة حضارية عصرية متطورة تحفظ له حقوقه وتصونها وتحكم من خلال مؤسساتها الدستورية بعدل وانصاف بين جميع ابنائها.

 

        وفي الخاتمـة ، يلفتنا مقال صدر مؤخراً في صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ 25 تموز 2024 يستذكر فيه الصحافي غسان شربل "منظمة ايلول الاسود" و"اولمبياد ميونخ" فيبدأ مقاله بالتالي : "كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة ايلول الاسود الفلسطينية في العام 1972 شباك دورة الالعاب الاولمبية في ميونخ وجابت صور جثث المهاجين والرهائن العالم باسره . نحو مليار شخص تابع ما سميت "مجزرة ميونخ" التي اختلط فيها الرصاص الالماني بالرصاص الفلسطيني وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي . وبمقاييس تلك الايام ومسرح الحادث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بانه طوفان لكنه انطلق على الارض الاوروبية " . فجلي بعد مرور اكثر من خمسين سنة على هذه الاحداث ان الصراع طويل ومكلف ويدفع الى طرح سؤال مشروع قد تكون عناصر الاجابة عليه ليس ملك اللبنانيين وحدهم : ما هي حدود النضال اللبناني في هذا الصراع وما معنى الانتصار او الحفاظ على المقاومة اذا أدى هذا المسار الى افراغ لبنان من ابنائه ومعناه . 

 

             د. رزق زغيـــــب

      بروفسور في كلية الحقوق والعلوم السياسية

         لدى جامعة القديس يوسف

           محامٍ في الاستئناف

 

 

Copyrights © 2024 All Rights Reserved.