جمعية لبنانية غير حكومية NGO

سيد الشهداء وسماحة الشهادة. أدخل جنة الخالدين إلى جوار عليٍّ والحُسين.

2024-10-02

الدكتور هشام الأعور

سيد الشهداء وسماحة الشهادة. أدخل جنة الخالدين إلى جوار عليٍّ والحُسين.

د. هشام الأعور

 

كيف تأتّى لسماحة الشهادة، مولدا ونشأة وعلما ودراسة وذائقة فكرية وتربية أن يكتشف معنى كرامة الانسان وعزة وجوده، وأن يعمل على لبننة اسلامه وتعريب لبنانيته؟

سؤال كبير لطالما سألته عن سماحة السيد حسن نصرالله ولم أجد له جوابا الا بالغوص في بحور هذا القائد الكبير الذي كان استثنائيًا في الحضور والكاريزما وحب أمّته، عابرا للطوائف بتواضعه، وعلامة للشعوب بإبائه وعزّة نفسه: أما سمّر في أذن كل عربي عائش على أمجاد الماضي صرخة: "هَيهات منا الزلة."

سكنت الحكمة عقله، والصدق لسانه، فبرؤيته يَسترشد من أراد أن يعرف كيف يتعامل مع مظالم الشعوب والحياة. سنرجع إليه في كل مناسبة ومحطة وأزمة وعاصفة، لا بل في كل لحظة من لحظات حياتنا السياسية ووجودنا الوطني ومصيرنا في هذا الشرق لنردّد مع صدى صوته قائلين: "هَيهات منا الزلة". فنكتشفه ونكتشف فيه إماما للمقاومة والتحرير والانتصارات، وللعدل والكرامة، والصبر والتعقل حتى الاستشهاد من أجل الآخرين، لتكون لهم حياة أفضل، يسودها العدل وتكلّلها الكرامة.

مع شروق شمس بعلبك الواعدة، من فوق اعمدة القلعة، صعودا الى جرودنا الشمالية الى أراضي اللبوة والهرمل وعكار والضنية، فإلى الضاحية الجنوبية ببيروت، المؤسّسة على عزّة أهل جَبَلي عامل وحرمون، وعلى الأمل الذي زرعه داعية التكاؤن اللبناني السيد موسى الصدر المغيّب، تشمخ القامات التي لم تنحنِ إلا للخالق، مقارعة السيف بالأكف العارية، ومواجهة المخرز بعيون مُحدّقة، لا يخيفها تحدّ ولا يرعبها هول، إلى ان تنقضي الأيام. الجرح، جرحٌ، والألم، المٌ، نحملهما باسم الله، على الرغم من تكاثر الزيف والنفاق، وعلى الرغم من صلافة خطب الوقاحة والنذالة وهي تحاول ان تسرق منا الذاكرة، بعد ان سرقت الحلم والشهداء والوطن وتعب الأيام.

ما كنت أتوقع يومًا أن اكتب في معاني استشهاد اسطورة الحق، وصاحب "الوعد الصادق" وسيد الانتصارات، إذ كنت أحسب أن غيابه كالمستحيل. وإن بقيت صورتُه في خاطري فهي صورة الرجل القوي العظيم الذي جعل مناصرة المظلومين شغفه وحياته، وبات ممن، حيثما سمِعَ صوتهم، ضجّت الساحات ودبّت الحياة في الجماهير، وأصبح الانتصار وشيكاً.

 السيد حسن نصرالله، كان ولم يزل ابن أهل البيت، وسيبقى واحد من علماء الأمة، ومن خريجي الحوزات العلمية في لبنان والعراق وإيران، ومن فقهاء الشيعة، ‏وأعلام المسلمين. وفي البعد المعرفي من شخصيته، هناك مكونات صَنَعت خصوصيته، وتميّزه الفكري، كذكائه الوقّاد ونبوغه المبكر وتفرّغه وعشقه للعلم والمعرفة من حداثة سنه، موَطّنا نفسه على تحمّل عناء العَوز، وضغوط المعيشة القاسية في سبيل خدمة قضيته، مكرسا لها حياته. 

لم يهمل قضية القدس وفلسطين، وقد حمل اللبنانيون لواء قضيتهما منذ النكبة الأولى عام 1948 لا بل منذ ثورة البراق 1929 والثورة الكبرى عام 1936 يوم تفاعلت مدن وقرى جبل عامل مع الثوار كما تفاعلت لاحقأ مع جيش الانقاذ. ثم يوم أفتى الامام السيد محسن الحكيم بدفع الخمس والزكاة لمجاهدي الثورة الفلسطينية عام 1968، فتعهد السيد حسن نصرالله، اثناء تشييع الأمين العام السبق له، السيد عباس الموسوي، الذي اغتيل في 16 فبراير/ شباط 1992 في هجوم إسرائيلي، وتوليه القيادة من بعده، بمواصلة المقاومة حتى دحر الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية. ووفى بتعهده.

في عام 2004، لعب "السيّد" دورًا محوريًا في أكبر صفقة تبادل أسرى بين حزب الله وإسرائيل، شملت إطلاق مئات الأسرى اللبنانيين والعرب، ونال لقب "سيد المقاومة" نظرًا لدور الحزب في تحرير جنوب لبنان عام 2000، ومواجهته لإسرائيل في حرب "تموز" عام 2006.

ساعدت خطبه الحماسية وتنفيذ وعوده بشن هجمات ضد إسرائيل ردًا على اعتداءاتها المتكررة على لبنان في تعزيز شعبيته، خاصة في العالمين العربي والإسلامي.

تجاوز "السيد الأمين" بتأثيره وحضوره حدود لبنان والمنطقة، وقرر بكل قناعة، عملا بفطرته في الدفاع عن المظلومين، مواجهة أخطر مؤامرة على الدول العربية والإسلام وهي ما سمّي بـ"الربيع العربي". فدفع بخيرة شباب "حزبه الله" لينخرط في المعارك على الأرض السورية لسنوات طويلة وسحق الارهاب الممنهج، ودعم نظام الرئيس الأسد في وجه مشاريع إسرائيل والغرب الهادفين لوضع يدهما على النفط والغاز العربيين. فكيف نستغرب بعد كل هذا ألا يفتح "جبهة إسناد" في جنوب لبنان دعمًا للمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 وهي الجبهة التي قال في عدد من خطبه إنها لن تهدأ إلا بعد إنهاء الحرب على غزة.

صحيح ان غيابه وطريقة إسقاطه التي شابهت، بنسبة كبيرة، إسقاط مدينة هيروشيما، لشدة ما رافقها من حقد وسابق تصميم وتصور خوفا من أن لا تنجح العملية ويخرج من تحت التراب ماردا جبارا، أوجع أيام الحياة وتسبب لنا بحزن محبط أمام ظلم الطواغيت، ولولا إيمان السيد نصرالله بالذات الذي لطالما تغنى به، واستباقه موته بتسليم نفسه لله عزّ وجلّ، وبتمنّيه العميق بالالتحاق بقافلة من سبقوه، لكنا بالفعل أحبطنا ونشفت دموعنا في مآقيها. لذا نؤكد لأنفسنا بانه عند نعش الشهيد لا حزن ولا بكاء  بل فرح له ومعه، وتبريكات لكل المؤمنين بالقضية وبلبنان.

أمثاله لا يُرثَون. هذا هو قدر الأبطال وكل ثائر استثنائي جعل من المقاومة مصدراً للعزة والكرامة.

وأنت اليوم في عرينك الذي أحببت. رحلت إليه كبيراً ومتسامحاً، راضياً بمصيرك بكل روحٍ مقاومة وأنت تلتحق بموكب العظماء.

يا سيد الشهداء.. ننتظرك مع المظلومين في بيتهم، والمظلومين من أهل بيتهم. أولئك المظلومين الشرفاء الذين لم يساوموا لا بثلاثين من الفضة، ولا بمكسب أو منصب، ولم يبيعوا ضميرهم، ولم يخونوا العهد والقسم، ولم ترعبهم مئات الأطنان من القنابل. زرعوا أجسادهم فوق الأرض وفي كل موقع وزاوية قنابل موقوتة ضد غطرسة الصهيونية وجبروتها بانتظار القطاف القادم مقاومة وعزة وكرامة وحريّة، وما زالوا ينتظرون "وما بدلوا تبديلا".

يا صاحب كلمة الفصل.. نخاف أن يكون برحيلك رحل الوعد الصادق، ونأمل ان يخلفك من صادقك وصدقك، فلا نقع بين أيدي قادة حروبهم اشاعات وسيوفهم ملتوية كألسنتهم ولا تمييز لديهم بين الله والمال... إلى دار الخلود عدت، فاستقبلتك من قيل فيها: "الجنة عند أقدام الأمهات".

وبدل الجنة الواحدة، دخلت جنتين،

طِب خاطرا مع رفاقك والعليّ والحسين،

سلاما نحمّلك للسيد موسى الصدر ملهمك

لبنان لن ينساك، وبالنصر نعدك، عين بعَين.

Copyrights © 2024 All Rights Reserved.