مقال للمغفور له الدكتور بيار دكاش عن العلامة ميشال شيحا،واضع الدستور اللبناني 1923
كيف يمكنني أن أتكلم عن إنسان بهذه المكانة المرموقة - حسبما ترامى إلى مسمعي؛ وأنا لم أعرفه عن قرب، ولم أعاصره، وخفت من أن لا أفيه حقه. لكن المحاولة مستحبة وإن كانت تشبه المغامرة.
أجل. لم يحالفني الحظ بأن ألتقيه من قبل، وأن أتعرف إليه عن كثب، فرحت أفتش عنه في سيرته الذاتية، وفيما كتب فيه وما صدر عنه من مقالات وما أطلقه من آراء؛ فوقفت واجمًا أمام وفرتها، أختصرها بمحطات ثلاث: الدستور؛ الرؤية؛ السرّ والصلاة، مدركاً أنني سأثير في هذا الاختيار الغيرة فيما بينها.
في وضع الدستور،
في سنة 1925 كان ميشال شيحا في لجنة قوامها 13 عضوًا مكلفة بإعداد القانون الأساسي للدستور اللبناني، وفي سنة 1926 شارك إلى جانب بترو طراد وعمر الداعوق في لجنة ثلاثية أوكلت إليها مهمّة وضع مسوَّدة الدستور، والجدير ذكره في هذا السياق أن محفوظات ميشال شيحا تحتوي على المسوَّدة الأصلية للدستور اللبناني، ومختلف التصحيحات المطبوعة على ثلاث مراحل، وهي مستمدة في صيغتها الأولى من الدستور الفرنسي للعام 1875
أما المسوَّدة النهائية فقد أدخل عليها تعديلات، بمبادرة من ميشال شيحا صاحب الفكر الكبير والرؤية الاستباقية والوطنية المجردة عن كل هوى، بوجوب وجود سلطة قوية وثابتة ممثلة بشخص رئيس الجمهورية؛ كما أورد في الدستور مادة لعدم جواز تجديد ولاية رئيس الجمهورية؛ عند انقضاء مدة ولايته. وهذا ما لم نتمكن من الحفاظ عليه في الطائف (1989) ونحن نعاني اليوم من هذه البدعة التي تمخض عنها فكر قادة الطوائف في لبنان وهي '' إرساء نظام حكم بثلاثة رؤوس، خلافًا لكل منطق إداري ونظام بيولوجي''. وفي 23 أيار 1926 أعلن هنري دي جوفنيل عن إبرام الدستور اللبناني، وبمجيء العام 1930 دخل الدستور اللبناني حيز التنفيذ.
في تعديل الدستور،
ليس أبلغ من افتتاحية ميشال شيحا، حول التعديل في عهد فخامة الرئيس بشارة الخوري، التي يندد فيها برغبة 40 نائبًا وأكثر الذين وقّعوا وثيقةً بسريةٍ تامة واحتفظوا بها في أحد الأدراج بانتظار صدورها إلى العلن. وقد رفض التعديل من الناحية المبدئية متخطيًا كل الاعتبارات العاطفية والعائلية والمصالح الذاتية مشددًا على التمسك بمصلحة البلاد العليا فيقول: "من المحزن والمؤسف أن يتم التعاطي مع المواد الدستورية والشأن العام بهذه الطريقة، فهذا دليل على تردي الأخلاق السياسية وعلى الحاجة إلى تقويمها". وهنا تحضرني المقولة: " يللي ما بتتعب عليه الأيادي ما بتحزن عليه القلوب ".
وإليكم الخبر،
أتاني ذات يوم ليس ببعيد إلى عيادتي في مستشفى سانت تريز رجل مسن محني الظهر عالي الجبين يلح بمقابلتي لأمر مهمّ جدًاّ ولو على غير موعد. فالتقيته وبادرني بالكلام بصوت متهدج! "أنت تعرف يا دكتور بولفار شمعون وترى أشجار الكينا الكبيرة على جانبيه، إنهم يقطعون أغصانها ويحاول الونش اقتلاع بعضها من جذورها، ثم أجهش بالبكاء ولم أعد أفهم ما يتفوه به من كلمات سوى، "أرجوك أن تتصل بمن بيده الأمر لإيقاف هذا التعدي".ثم أضاف: " منذ خمسين سنة كنت عاملاً بسيطًا وأسهمت مع زملاء لي بزرعها، وأنا أجيء من وقت إلى آخر أتفقدها، وأفرح بأنها تنمو وتكبر وتسابقني، فأنا أسير إلى حتفي بانحنائي يومًا بعد يوم نحو الأرض التي آمل أن يضمني ترابها، أما هي فتنمو شامخة نحو العلا وأشعر بأنني أخلد بوجودها. أرجوك يا دكتور ساعدني إنهم يقتلعوني معها أرجوك"!!.
وهكذا نرى كهذا المواطن الأمين أن ميشال شيحا رفض المساس بما صنعت يداه فيقول: "هذا الدستور الذي عملت عليه أكثر من أي شخص كان على ما أظن ..... لن أقبل في أن يمس." وفي خلاصة القول: "ليس خطابنا هذا إلا تعبيرًا عن واجبنا الوطني والسياسي، وعن وعي المجتمع. فما نرفضه وما يثير التحفظ ويستدعي الاستنكار اليوم نجاهر به بالفم الملآن. والجميع يقف في صفوفنا اليوم إن جاهرنا، بما ضاقت به نفوسنا، وخرجنا عن صمتنا". فكم نحن اليوم بحاجة إلى أمثاله !!
رحمك الله د. دكاش، أيها اللبناني الشريف الذي تمتّعت بما وصفت به المرحوم العلامة ميشال شيحا. ها نحن مجموعة قرّرت أن تشفي حسرتك بأن تعيد النظر في دستور لبنان الحالي تفعيلا واستكمالا كي يعود للبنان رأسُه، وللرأس دماغُه، وللكيان قلبُه الذي لم ولن يشفق عليه إنسان ما لم يشفق على نفسه.
الأب ميخائيل روحانا. عن أعضاء لجنة تعديل الدستور اللبناني 2023 - 2024.