التكاؤن: نظرية "الصالح العام" بالمطلق والدولة المركزية العادلة
2025-11-04
الأب ميخائيل روحانا الأنطوني
في عالم يزداد ترابطاً، تبرز الحاجة إلى رؤى فلسفية جريئة تقدم حلولاً للتحديات المعاصرة. من بين هذه الرؤى، تطفو "نظرية التكاؤن" التي تنطلق من عمق الفكر الإنساني، شرقاً وغرباً، لتعيد تعريف علاقة الفرد بالمجتمع، وترسم طريقاً نحو الخير المشترك.
في كنف بلدية بيت مري، وباستضافة كريمة من مجلسها البلدي ورئيسه الأستاذ روي أبو شديد، أتمّت جمعية "التكاؤن"، المؤسّسة من قبل ابن البلدة البار، الأب الدكتور ميخائيل روحانا الأنطوني، ويرأسها البروفسور رزق منصور زغيب، ندوة بثلاثة أصوات، الأب روحانا، البروفسور زغيب والنائب السابق المحامي غسان مخيبر حول نظرية "التكاؤن"، الحديثة البروز على الساحة الثقافية الاجتماعية في لبنان والعالم العربي، كما حول الأسباب الموجبة لتعديل الدستور اللبناني الحالي "تفعيلا واستكمالا"، لكي تستفيد الدولة المأزومة من التحولات الجذرية التي أصابت ولا تزال تصيب منطقة الشرق الأوسط، وتدخل في حيز الدول المحترِمة لحقوق مواطنيها الشخصية ولصالحهم العام، والمحترَمة من قبل أصدقائها كافة، بخاصة الذين ضحوا بالكثير لتحقيق اتفاق الطائف ووضع وثيقة السلم الأهلي.
وقد تشرفت الجمعية، والمجلس البلدي، بحضور الندوة من قبل رئيس أساقفة بيروت سيادة المطران بولس عبد الساتر ممثلا بالخوري بيار الشمالي، خادم رعية البلدة، والأم نزهة الخوري الرئيسة العامة للراهبات الأنطونيات، والأب المدبر بشاره إيليا الأنطوني رئيس دير مار يوحنا القلعة، والأرشمندريت الدكتور حارث ابراهيم، كما بعدد من النخبة الثقافية والقضائية والسياسية وعلى رأسهم الرئيسة ميسم النويري المديرة العام السابقة لوزارة العدل، الرئيس صلاح مخيبر العضو السابق في المجلس الدستوري، السيد حسن حسين الحسيني الشاهد على أعمال مؤتمر الطائف والعضو المؤسس في "مشروع وطن الإنسان"، الدكتور ألفرد رياشي مؤسس المؤتمر الدائم للفدرالية، والسفير السابق منصور عبدلله، والسيدة منى مراد نائبة رئيسة الاتحاد اللبناني للجمعيات النسائية، والكاتبة في الفكر الصوفي السيدة ماري بدين ورفاقها، ولفيف من أعضاء المجلس البلدي والمخاتير وغيرهم من المعنيين بالشأن العام وكرامة الإنسان. تميّز الحضور بنخبويته الثقافية والحضارية المتجذرة في الانتماء اللبناني غير القابل للجدل.
افتتحت الندوة بالنشيد الوطني وقدم لها الدكتور عماد رزق، الكاتب والمحلل السياسي، بلباقته الأدبية والإعلامية معرّفّا بالأب الدكتور ومسيرته العلمية وغيرته الوطنية التي جعلته يرفض الأمر الواقع منذ بداية حرب 1975، بخاصة بعد الوصاية السورية والغزو الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 حيث بدأ يعد من خلال دراساته الجامعية حلا للمعضلة اللبنانية التي تتسبب، كل خمسة عشر عام، بتعطيل كل تطور وازدهار يتوصل إليهما لبنان كما كل تجاوز طائفي تحققه المكونات اللبنانية بهدف النمو المشترك الأمثل بشكل يؤدي إلى الوحدة والسلام بين اللبنانيين. فتتدخل اليد الخفية لتسعير نار الخلافات الطائفية والمناطقية بينهم فلا يقوم للبنان قائمة. ثم ترك الكلام للأب روحانا يفسر ما يحتويه كتابه من معلومات عن نظرية التكاؤن وبعض طرق تطبيقها.
عَنوَنَ الأب روحانا مداخلته "نظرية التكاؤن: من الفلسفة إلى التطبيق، طارحًا السؤال: "على أي أساس نعيد بناء مجتمعاتنا؟ على العيش المشترك أم على التكاؤن؟ وتابع قائلا:
في عالم يزداد ترابطاً، تبرز الحاجة إلى رؤى فلسفية جريئة تقدم حلولاً للتحديات المعاصرة. من بين هذه الرؤى، تطفو "نظرية التكاؤن" التي تنطلق من عمق الفكر الإنساني، شرقاً وغرباً، لتعيد تعريف علاقة الفرد بالمجتمع، وترسم طريقاً نحو الخير المشترك.
جذور المفهوم تكمن من جهة فيما بينته فيزياء الكم من تشابك عناصر الكون ببعضها، "بشرا وحجرا"، روحًا ومادة، من دون أي فراغ أو فقدان للجاذبية، وبأن ما يحدث في مكان ما لا بد يؤثر على الكون بأثره. أما من جهة الفكر البشري فنجدها بين جبران خليل جبران وديكارت وهايدغر:
لم تظهر نظرية التكاؤن من فراغ، بل هي امتداد لتأملات فلسفية عميقة. فالمقولة الشهيرة "أولادكم ليسوا لكم" لجبران خليل جبران، والتي دافع عنها بعلاقته بأمه وأخواته رغم كل الصعوبات، كانت إشارة مبكرة لمعنى "التكاؤن" - ذلك التشابك الفاعل رغم المسافات، والذي يتجاوز مجرد "العيش المشترك" التحاصصي والظرفي.
كما أن التمييز الدقيق بين "الوجود" و"الكينونة" الذي تفتقده اللغة العربية، حسب رأي لغويين مثل سعيد عقل، ليس مجرد نقاش لغوي، بل هو انعكاس لرؤية حضارية. فالفعل "Etre" أو "To be" الذي يعني "الكينونة" العاقلة، المدركة، يقابله في العربية الفعل "كان"، الماضي الناقص، مما يعكس - بحسب النص - جموداً حضارياً وتمسكاً بأمجاد الماضي وبحرفية النصوص الدينية.
وفي ماهية نظرية التكاؤن نلتقي بنظرية الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن "المعيّة" التي أساسها الآخر (Mitsein). فهايدغر يرى أن الإنسان كائن اجتماعي بالجوهر، وأن خير الفرد مرتبط عضوياً بخير الآخر حتى خير الجماعة، أي، بالمعنى الدستوري، الصالح العام أو الخير العام للمواطنين، و"خير الآخر هو الطريق الأساس إلى خيري الشخصي"، كما ورد على لسان الأب روحانا، وأضاف: "هذا المبدأ ليس جديداً، فقد جاءت به الكتب السماوية، لكن الجديد هو محاولة تأطيره كنظرية قابلة للتطبيق على مستويات مختلفة، من الأسرة إلى العلاقات الدولية، فمثلا:
1. في التربية والأسرة: تطرح النظرية سؤالاً جوهرياً: هل نربي أبناءنا على التعلق بالملكية والأنانية، أم على الحب وحرية الرأي وتفضيل كينونة العائلة على الذات؟
2. في الإدارة المحلية: يمكن تطبيق النظرية في المجالس البلدية التي تنتخب من الشعب لتتبنى الشفافية وتعنى بخدمة الصالح العام، حيث تكون "كينونة البلدة فوق كل مصلحة خاصة".
3. في العلاقات الدولية: تقدم النظرية حلاً للقضية الفلسطينية عبر نموذج "دولة واحدة للجميع" تحت اسم "الأراضي المقدسة"، حيث يتكاءن أتباع الديانات المختلفة حول قيم مشتركة.
4. في الإصلاح السياسي في لبنان: تدعو النظرية إلى مراجعة الدستور اللبناني للانتقال من "العيش المشترك" القائم على المحاصصة، إلى "التكاؤن" القائم على أولوية الصالح العام.
وكخاتمة، وبهدف استشراف مستقبل لبنان، تبقى نظرية التكاؤن مقترحاً جريئاً يحتاج إلى مزيد من الحوار والنقاش، لكنها تقدم رؤية متفائلة لمستقبل تجتمع فيه الإنسانية حول قيم الخير المشترك، متجاوزة الأنانية والصراعات التي أنهكت مجتمعاتنا. كما يقول النص: "جوهر كل حياة إنسانية واستمرارها هو الحب والعطاء والغفران" من جهة الدين، ما يترجم، على أرض الواقع الاجتماعي بالأخلاق على ما قاله الشاعر أحمد شوقي: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم، ذهبوا".
ثم أعطى مقدم الندوة الدكتور عماد رزق الكلام للبروفسور رزق زغيب الذي استمد عنوان مداخلته من عنوان مشروع قانون تعديل الدستور اللبناني "مراجعة في الدستور اللبناني تفعيلا واستكمالا" الذي أعده واقترحه "اللقاء الدستوري من اجل الجمهورية" المنبثق من جمعية التكاؤن. فنقل إلى الحضور الكريم ما يلي من الأفكار النيرة التي توضح الأسباب الموجبة لتعديل الدستور ومنها باختصار:
دستورنا في مهبّ العاصفة: حان وقت التعديل الجراحي. فبينما تدور عجلة الأزمات في لبنان من شغور رئاسي مُمتد، وشلل حكومي، وانهيار اقتصادي هو الأسوأ منذ المجاعة الكبرى، يبرز سؤال مصيري: ألم يحن الوقت لإنقاذ دستورنا من دائرة التعطيل والتجاوز التي يعيشها؟ فدستورنا، هذا الصرح القانوني الذي ظلّل حياتنا الوطنية منذ قرنٍ كامل، والذي تفخر به الأمة كما تفخر الأمم برموز سيادتها، لم يعد بمأمن من تقلبات الشرق الأوسط والتحولات العالمية. لقد صمد عبر ثلاث جمهوريات، وكان حجر الزاوية في اتفاق الطائف عام 1990، الذي أراد أن يرسي نهجاً جديداً قائماً على الوفاق بعد سنوات الشقاق. لكن النية الطيبة لواضعيه وقعت أسيرة التنفيذ المشوّه، فامتُهن النص واستُغلت ثغراته.
لقد كرّست وثيقة الوفاق الوطني مبدأي المشاركة والمساواة، لكن الممارسة العملية على مدى ثلاثة عقود كشفت عن عثرات وثغرات ألقَت بثقلها على فعالية الحكم. ولمواجهة هذا الخطر، لم نختفِ وراء شعار "تطبيق الطائف قبل تعديله"، بل سعينا إلى تعديل هادف يحافظ على الجوهر ويطور المسالك. فبدلاً من أن يكون التعطيل سلاحاً يودي بالبلاد إلى الهلاك، كما رأينا منذ 2019، اقترحنا آليات تحسم الخلافات دون أن تُشعر الطرف المهزوم بالقهر.
وأما آليات الحسم بدل التعطيل، أضاف رئيس لجنة "اللقاء الدستوري من أجل الجمهورية"، البروفسور زغيب، فتكون من خلال النقاط التالية:
وفي رؤيته الشاملة للتطوير، يقترح البروفسور بالنيابة عن "اللقاء الدستوري" الذي يرأسه،
مشروعًا متكاملا لتعديل دستوري، يلامس مختلف النواحي:
في الخلاصة، يؤكد "اللقاء الدستوري من أجل الجمهورية، على لسان رئيسه، بأن هذه التعديلات المقترحة هي محاولة لإعادة الروح إلى مؤسساتنا، لتكون "زينة في الرخاء وعدة في البلاء". ولو قال قائل إن الطريق طويل وشائك، وأن مهمة التفكيك اليوم أسهل من الترميم وأسرع، نجيبه بأننا نؤمن بما أتى على لسان ابن الرومي:
نارُ الرَّويَّة نارٌ جِدُّ مُنْضجةٍ وللبديهَةِ نارٌ ذَاتُ تَلْويحِ
وَقَدْ يَفضِّلُهَا قَوْمٌ لِعَاجِلِها لكنَّهُ عاجِلٌ يَمْضي مع الريحِ
ما يؤكد أن في العجلة الندامة وفي التروي السلامة والنضج والاستدامة، والخلاص لا يكون بالاستسلام للانهيار، بل بتجديد العقد الاجتماعي بما يضمن المشاركة والفعالية في آنٍ معاً. فماذا نختار؟
آخر الأخبار
زيارة البابا إلى لبنان: أبعاد حياتية ووطنية وروحية وإنسانية
بروفسور فريد جبور
ماهية الحرية
البروفسور جهاد نعمان
مكانة النوابغ في الميزان!
البروفسور جهاد نعمان
دولة الميليشيات والمافيا في لبنان: دراسة تاريخية واجتماعية وسياسية
بروفسور فريد جبور
يا عدرا... احمينا : بقلم الصحافي الأردني عبدالهادي راجي المجالي
المكتب الإعلامي لجمعية التكاؤن
الفدرالية ليست الحل
المكتب الإعلامي لجمعية التكاؤن
الشرع في واشنطن: صناعة رئيس جديد لسوريا أم إعادة تدوير للمصالح؟ |
الدكتور هشام الأعور
حزب الله في معادلة جديدة
الدكتور هشام الأعور
التكاؤن: نظرية "الصالح العام" بالمطلق والدولة المركزية العادلة
الأب ميخائيل روحانا الأنطوني
Copyrights © 2025 All Rights Reserved. | Powered by OSITCOM