tiktok
Logo

الفدرالية ليست الحل

2025-11-17

المكتب الإعلامي لجمعية التكاؤن

من أبرز أعمدة المدرسة الواقعية بين الحكام العرب، وربما كان طليعتهم، نوري السعيد . كان "الباشا" يردد قول ضابط بروسي تلقى منه العلوم العسكرية في كلية الأركان في اسطنبول: "القائد الناجح هو من يدقق في إمكانياته العسكرية ويضع خططًا لا تتعداها".

تصلح هذه النصيحة لحكام لبنان ومثقفيه ممن ينسابون وراء أساطير وأوهام ويشيّدون صروحًا تتداعى ونكون جميعًا ضحاياها.

ذات يوم كنت في عداد من رأى في النظام الفدرالي حلًا لمأساة لبنان الحديث. لم أكن في عداد من أدخل الفكر الفدرالي إلى لبنان بل لعبت دورًا لاحقًا أسهم في تطوير الفكر الفدرالي. ربما بسبب ثقافتي الانكلوساكسونية، أدخلت أبعادًا تخطّت مفاهيم الذين انتموا إلى المدرسة الفرنسية. سعيت لتحقيق أمرين: الخروج عن التراث الفورييري، نسبة لشارل فورييه، المفكر الاشتراكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، الذي أسرف بسرد أدق التفاصيل لعقود سبقت وصول الاشتراكيين إلى الحكم، ككيفية بناء المعامل وحجم نوافذها كي يستفيد العمال من أشعة الشمس أثناء عملهم. أما إسهامي الثاني، وهو متصل بالأول، فكان الاكتفاء بوضع الخطوط العريضة لنظام فدرالي للبنان يقوم على ثلاثة أركان: الوحدة الفدرالية، الأوبلاست، وأخيرًا الامبودسمان. ثلاثية تكفل حقوق كل لبناني وتحميها سواء كان مجموعة متماسكة، أم أقلية ضمن مجموعة، أو حتى فردًا.

حرب الإسناد في 8 أكتوبر 2023 فتحت عينيّ وبت على قناعة بأن الفدرالية ليست حلًا للبنان.

العقود الأربعة من سيطرة "حزب الله" على لبنان وخدمة سياسة إيران التوسعية، انتهت إلى قضم مؤسسات لبنان العامة وإنشاء قطاع خاص إزائي، جنبًا إلى جنب مع إعداد قوة عسكرية ضاربة متفوقة التنظيم وفائقة التمويل. تسلطت مؤسسات "الحزب" تدريجيًا وأحكمت قبضتها على الأجهزة الأمنية والقضائية. ليس هذا فحسب، بل وفّق "الثنائي" إلى حصر التمثيل النيابي الشيعي به وكان منهم رئيسًا للمجلس لم يتبدل طوال الـ 34 سنة الماضية عطّل أثناءها انتخاب رئيس جمهورية لسبع سنوات وكان له القول الفصل في تشكيل الوزارات والاستئثار بالقرار المالي، والقضائي والأمني، يضاف إليها، وربما على رأسها، اعتماد "حزب الله" التهديد والإسراف باغتيالات لم توفر أحدًا من خصومه، ما جعل "الثنائي الشيعي" الحاكم الفعلي للبنان.

هذا الصرح تهاوى في 8 أكتوبر 2023 يوم قرّر "حزب الله" مساندة حماس ما انتهى بهزيمة مدوية ودمار كارثي واستئصال لقيادات "الحزب" وعسكرييه، كما كان لهزيمة إيران في حرب الـ 12 يومًا أثره على لبنان إذ بتر إلى حد روافد إمداد "الحزب" بسقوط النظام السوري واستبداله بنظام لا يخفي عداءه لولاية الفقيه .لكن بالمقابل، عمدت إيران و"الحزب" الى الاستعانة بعد الهزيمة بأمرين: الاستفادة داخليًا وإقليميًا من عنصر الوقت الذي يعمل لمصلحتهما، كما رفع "حزب الله" مقدار ومستوى تصريحات تضمنت إهانات وتهديدات وشتم خصومه إلى قدر لم يبلغه قط. خصص "الحزب" المسيحيين عبر شبكات تواصله الاجتماعي بسباب واتهامات لم تستثن حتى القيادات الدينية. لمَ ذاك؟ إنه "نظام الذمة" والاستعلاء على الذميين، نصارى ويهودًا. غير أن التفوق العسكري والمخابراتي والتقني المدوي لإسرائيل، حصر المآخذ على اليهود بـ "الوحشية والإبادات الجماعية"، فيما كال على ألمسيحيين ساسة وكنسيين، شتائم وإهانات فاقت ما كان من حدود، وبأشواط.

هذا الكره الذي كان دفينًا فطفى، ألزمني بمراجعة قناعتي بالفدرالية كحل لمأساة اللبنانيين. لن يكون علاج حقد بهذا العمق بأقل من التقسيم. واضح لمن يريد أن يرى أن لا سبيل إلى التوفيق بين رؤى للوجود لا تلتقي على شيء. فالخيار يكون بفرض إحداها على الأخرى وهو ليس فقط من قبيل الظلم بل، وهو الأهم لي كناشط في حقوق الإنسان، لانه ينتهك حق الرأي والمعتقد. بأي حق يفرض من يتبنى المفاهيم الغربية للحريات والمساواة على آخر يرى أن سبب وجوده وهدف حياته يجدها في كتاب الإمام الخميني "الجمهورية الاسلامية" وقوانين العائلة تستمد بحذافيرها من "تحرير الوسيلة". وبنفس المعايير، للغير الحق بقوانين تنسجم مع رؤياه للوجود والسياسة والعائلة. عليه يكون الحل بـ"تفريق بإحسان".

على خلاف ما يبدو، لن يكون التقسيم طائفيًا أو عرقيًا بل قيميًّا. الشيعة الليبراليون يحلون بيننا بترحاب وعلى السعة، كما أن الراهبات اللواتي يتلون الفاتحة والحجاج إلى مليتا، ورندلى جبور وغدي فرنسيس وبيار أبي صعب، وغسان سعود ومن تتعبد أمام تمثال قاسم سليماني وغيرهم، لا أراهم إلا سعداء بين أقرانهم إن انتقلوا إلى جوار "حزب الله".

أما من يخشى أن يؤدي التقسيم إلى البؤس فهو على ضلال. ازدهار الدول بانسجامها وليس بامتدادها. جنوب الليطاني، كمثال، أكبر حجمًا من سنغافورا، الأولى من حيث الدخل الفردي.

Copyrights © 2025 All Rights Reserved. | Powered by OSITCOM