دولة الميليشيات والمافيا في لبنان: دراسة تاريخية واجتماعية وسياسية
2025-11-19
بروفسور فريد جبور
بقلم دكتور فريد جبور19 تشرين الثاني 2025
المقدمة
يتميّز لبنان بتركيبته السياسية والاجتماعية المعقدة التي تتشابك فيها الطائفية مع بنية الدولة، ما خلق واقعًا تتعايش فيه السلطة الرسمية مع سلطات موازية تتفوّق عليها أحيانًا. ويُعد النظام الطائفي، منذ نشأته في القرن التاسع عشر، البنية التحتية التي سهّلت صعود الزعامات المحلية، وسمحت لاحقًا بتحولها إلى قوى مسلحة خلال الحرب الأهلية، ثم إلى شبكات مافيوية–سياسية بعد نهايتها.
الحرب الأهلية شكّلت لحظة تأسيسية لاقتصاد وسلطة الميليشيات، بينما أنتجت مرحلة ما بعد الطائف نظامًا سياسيًا أتاح دمج هذه القوى في الدولة بدل تفكيكها. ومع الوقت، أصبح النفوذ الميليشيوي والمافيوي جزءًا بنيويًا من النظام السياسي، مُحكِمًا سيطرته على المؤسسات والقطاعات الاقتصادية والمالية والإدارية.
يبحث هذا العمل في:
1. الجذور التاريخية لصعود الميليشيات والمافيات في لبنان.
2. الوضع الراهن لشبكات النفوذ داخل الدولة والمجتمع.
3. الانعكاسات على الاقتصاد، والسياسة، والهوية
4. الحلول الممكنة لاستعادة الدولة وإعادة بناء الثقة العامة.
---
القسم الأول: الجذور التاريخية – نشوء الميليشيات والمافيات في ظل النظام الطائفي
1. الطائفية كنظام لإنتاج سلطات موازية
تشكّل النظام الطائفي اللبناني مع المتصرفية ودستور 1926، مما رسّخ مبدأ المحاصصة والتمثيل الطائفي كأساس للحكم. ومع ضعف الدولة المركزية، أصبحت الطوائف والزعامة التقليدية وسطاء بين المواطن والدولة، وهو ما أسس لنمط من الولاءات الأولية التي ترافق المواطن في حياته الاجتماعية والسياسية[1][3].
2. الحرب الأهلية وصعود اقتصاد الميليشيات
ظهرت الميليشيات كقوى منظمة تملأ الفراغ الأمني والإداري، وأنشأت محاكم خاصة، نقاط تفتيش وجبايات، معابر حدودية، وشبكات تهريب منظمة. تحول "اقتصاد الحرب" إلى مؤسسات مالية قائمة بذاتها[6].
3. اتفاق الطائف وتحول الميليشيات إلى السلطة
اتفاق الطائف لم يفكك الميليشيات، بل دمج قادتها في البرلمان والحكومة، ومنح شبكات النفوذ القديمة شرعية سياسية[7].
4. نشوء المافيات بعد الحرب
بعد 1992، نشأت تحالفات بين رأس المال السياسي، المصارف، وشبكات السلطة، ما أدى إلى:
سيطرة على القطاع المصرفي والعقاري.
فساد قانوني محمي سياسيًا[9].
تأسيس مافيات الخدمات والكهرباء والمواد الأساسية.
القسم الثاني: نقاط سيطرة الميليشيات والمافيات في الدولة والمجتمع
1. السيطرة على القرار السياسي
تتحكم القوى الطائفية بمفاصل الدولة عبر تعطيل الحكومات، تقاسم الوزارات، الفيتوات المتبادلة، واستخدام الخطاب الطائفي[10].
2. الاقتصاد الموازي – مافيات المال والخدمات
المرافئ والمعابر: تهريب منظم يحرم الدولة موارد ضخمة[11].
القطاع المصرفي: تحالف السلطة–المصارف أدى إلى تهريب الأموال وتحميل المودعين خسائر[12].
القطاعات الأساسية: الكهرباء، النفايات، المحروقات، المولدات الخاصة تحت سيطرة شبكات محلية[15][19].
3. اختراق الإدارة العامة
المحاصصة الطائفية تتحكم بالتعيينات، تعطيل الرقابة، توزيع المراكز وفق الانتماء الطائفي لا الكفاءة[13].
4. الهيمنة الاجتماعية
ربط المواطن بالزعيم للحصول على الخدمات، انهيار الطبقة الوسطى، توسع الاقتصاد غير الرسمي، وتراجع الثقة بالمؤسسات[14].
5. ازدواجية وتعدد السلاح في لبنان
وجود أكثر من قوة مسلحة خارج الدولة يعرف بـازدواجية السلاح، حيث تمتلك بعض الجماعات أسلحة تفوق قدرات الجيش[1]. بعد الحرب الأهلية، ظهرت تعددية السلاح داخل الطوائف نفسها، ما أدى إلى:
تهميش سلطة الدولة المركزية على الأرض.
خلق اقتصاد حرب وتهريب سلاح عبر الحدود.
تعزيز الولاء للطائفة أو الزعيم المحلي بدل الدولة.
استخدام السلاح في التسويات السياسية، الانتخابات، وفرض شروط على السياسات الحكومية[2].
ساهمت ازدواجية وتعدد السلاح في زيادة العنف الأهلي، تعطيل الإصلاحات الأمنية، وتوسيع نفوذ الميليشيات والمافيات.
الحل المقترح: حصر السلاح بيد الدولة، نزع سلاح الميليشيات تدريجيًا، ودمج المقاتلين السابقين في مؤسسات الدولة[3].
القسم الثالث: المفاعيل الشاملة وطرح العلاج
1. المفاعيل على الدولة
السياسية: غياب الدولة المركزية، شلل حكومي، صدام الصلاحيات.
الاقتصادية: انهيار العملة، إفلاس مصرفي، فقدان الثقة بالقطاع المصرفي[16].
الاجتماعية: تفكك الطبقة الوسطى، ارتفاع الهجرة، انهيار التعليم والصحة.
القضائية: تدخل سياسي مباشر في عمل القضاء، غياب المحاسبة الفعلية[13][18].
2. العلاج – خارطة طريق لاستعادة الدولة
إصلاح سياسي: قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، مجلس شيوخ للطوائف، تعزيز اللامركزية.
إصلاح اقتصادي: إعادة هيكلة المصارف، مكافحة الاحتكار، تطوير الاقتصاد الإنتاجي.
إصلاح إداري: توظيف قائم على الكفاءة، رقمنة الدولة، استقلال القضاء.
إصلاح اجتماعي–ثقافي: مناهج تعليمية جديدة، ترسيخ المواطنة، حماية الفئات الضعيفة.
الخاتمة
واقع الميليشيات والمافيات في لبنان نتاج تاريخي تراكم فيه الطائفية، الحرب، ومرحلة ما بعد الطائف. أدى إلى تفكك مؤسسات الدولة، انهيار مالي واقتصادي، وأزمات مجتمعية عميقة.
إعادة بناء الدولة تحتاج إرادة سياسية، قوانين انتخابية عادلة، قضاء مستقل، إدارة شفافة، واقتصاد إنتاجي. استعادة الدولة تبدأ حين يصبح المواطن محور العملية السياسية لا الزعيم، والقانون المرجعية الوحيدة.
الهوامش
1. Charles Tilly, The Formation of National States in Western Europe.
2. Diego Gambetta, The Sicilian Mafia.
3. Rex Brynen, Sanctuary and Survival.
4. Kamal Salibi, A House of Many Mansions.
5. Farid el-Khazen, The Breakdown of the State in Lebanon.
6. Elisabeth Picard, Lebanon: A Shattered Country.
7. Bassel Salloukh et al., The Politics of Sectarianism in Postwar Lebanon.
8. Reinoud Leenders, Spoils of Truce.
9. Norton, Hezbollah: A Short History.
10. World Bank Reports (2020–2022).
11. Lazard Report (2020).
12. Legal Agenda Reports.
13. ESCWA Poverty Report (2021).
14. HRW Waste Crisis Report (2017).
15. Transparency International Index.
16. World Bank Electricity Sector Report (2020).
17. فريد جبّور، الفكر السياسي اللبناني بين الطائفية والدولة.
18. فريد جبّور، الطائفية وإشكالية بناء الدولة في لبنان.
19. فريد جبّور، قراءات في بنية النظام السياسي اللبناني.
لائحة المراجع
أولًا: المراجع الأجنبية
Brynen, Rex. Sanctuary and Survival.
Gambetta, Diego. The Sicilian Mafia.
Leenders, Reinoud. Spoils of Truce.
Norton, Augustus R. Hezbollah: A Short History.
Picard, Elisabeth. Lebanon: A Shattered Country.
Salloukh, Bassel et al. The Politics of Sectarianism in Postwar Lebanon.
Salibi, Kamal. A House of Many Mansions.
Tilly, Charles. The Formation of National States in Western Europe.
ثانيًا: المراجع العربية
جبّور، فريد. الفكر السياسي اللبناني بين الطائفية والدولة.
جبّور، فريد. الطائفية وإشكالية بناء الدولة في لبنان.
جبّور، فريد. قراءات في بنية النظام السياسي اللبناني.
ثالثًا: تقارير دولية ورسمية
World Bank, Lebanon Economic Monitor.
IMF, Lebanon Assessment Report.
ESCWA, Poverty in Lebanon 2021.
Human Rights Watch, Waste Crisis Report.
Transparency International, Corruption Index.
International Crisis Group, Lebanon Reports.
Lazard Frères, Financial Restructuring Report (2020).
Legal Agenda, Reports on Judicial Independence.
---
آخر الأخبار
زيارة البابا إلى لبنان: أبعاد حياتية ووطنية وروحية وإنسانية
بروفسور فريد جبور
ماهية الحرية
البروفسور جهاد نعمان
مكانة النوابغ في الميزان!
البروفسور جهاد نعمان
دولة الميليشيات والمافيا في لبنان: دراسة تاريخية واجتماعية وسياسية
بروفسور فريد جبور
يا عدرا... احمينا : بقلم الصحافي الأردني عبدالهادي راجي المجالي
المكتب الإعلامي لجمعية التكاؤن
الفدرالية ليست الحل
المكتب الإعلامي لجمعية التكاؤن
الشرع في واشنطن: صناعة رئيس جديد لسوريا أم إعادة تدوير للمصالح؟ |
الدكتور هشام الأعور
حزب الله في معادلة جديدة
الدكتور هشام الأعور
التكاؤن: نظرية "الصالح العام" بالمطلق والدولة المركزية العادلة
الأب ميخائيل روحانا الأنطوني
Copyrights © 2025 All Rights Reserved. | Powered by OSITCOM