tiktok
Logo

بنية الوعي السياسي العربي

قراءة معمّقة في بنية الوعي السياسي العربي

2025-12-15

بروفسور فريد جبور

كيفما اتّجهتَ أو توجّهتَ في الخطاب العربي،
ترى تبرير فشلنا وتخلّفنا بفكرة المؤامرة،
وهو ما دعاني إلى كتابة ما يلي.


---

من عقلية المؤامرة إلى انسداد الفعل السياسي

قراءة معمّقة في بنية الوعي السياسي العربي

مقدّمة

يميل الخطاب العربي المعاصر، سياسيًا وثقافيًا، إلى تفسير الإخفاقات المتراكمة من خلال إرجاعها إلى الخارج: قوى دولية، أو مؤامرات خفية، أو إرادات كبرى لا تريد لهذه المنطقة أن تنهض. ولا يمكن إنكار وجود تدخلات خارجية في التاريخ العربي الحديث، غير أن الإشكال الحقيقي يبدأ حين تتحوّل هذه الحقيقة الجزئية إلى تفسير شامل، يعفي الداخل من أي مساءلة، ويحوّل الفشل من نتيجة خيارات وبُنى قابلة للنقد إلى قدر مفروض لا يُقاوَم.

في هذا السياق، لا تعود «المؤامرة» مجرّد فرضية سياسية قابلة للفحص، بل تصبح بنية ذهنية، ونمط تفكير، وآلية دفاع نفسي واجتماعي تُعيد إنتاج العجز بدل تفكيكه.


---

أولًا: الجذور النفسية – الصدمة وآليات الدفاع الجمعية

تُظهر دراسات علم النفس السياسي أن المجتمعات التي تعرّضت لصدمات تاريخية متكرّرة — كالهزائم العسكرية، والاستعمار، والانقلابات، والحروب الأهلية — تميل إلى تطوير ما يمكن تسميته عقلًا دفاعيًا جمعيًا.
ويقوم هذا العقل على:

إسقاط أسباب الفشل على الخارج

حماية صورة الذات الجماعية من الانكسار

البحث عن عدوّ واضح يفسّر الإخفاق


في هذا الإطار، تؤدي نظرية المؤامرة وظيفة نفسية مزدوجة: فهي تخفّف الإحساس بالعجز والذنب، لكنها في الوقت نفسه تعيق أي عملية تعافٍ حقيقية، لأن الاعتراف بالخطأ يُستبدل بالشكوى، والمراجعة تُستبدل بالتبرير.

---

ثانيًا: البنية المعرفية – كراهية التعقيد

من منظور علم المعرفة الاجتماعي، تقوم العقلية التآمرية على رفض التعقيد. فالواقع السياسي الحديث مركّب بطبيعته، تتداخل فيه عوامل داخلية وخارجية، اقتصادية ومؤسساتية وثقافية.
غير أن التفكير التآمري يفضّل:

سببًا واحدًا شاملًا

سردية بسيطة للخير والشر

يقينًا مغلقًا بدل سؤال مفتوح


وهكذا، كلما ازداد الواقع تعقيدًا، ازدادت جاذبية التفسير التآمري، لأنه يوفّر راحة معرفية سريعة، وإن كانت على حساب الفهم الدقيق والمسؤول.
---

ثالثًا: الدولة العربية الحديثة وفشل المساءلة

تبيّن نظريات الدولة ما بعد الاستعمار أن عددًا كبيرًا من الدول العربية نشأ:

بمؤسسات هشّة

بشرعيات ثورية أو أمنية

ومن دون عقد اجتماعي واضح


في ظل هذا الواقع، لم تتكوّن ثقافة مساءلة حقيقية، لا للسلطة ولا للنخب. ومع غياب الشفافية، يتحوّل الغموض السياسي إلى تربة خصبة للتفسير التآمري. فحين لا يعرف المواطن كيف تُتخذ القرارات، ولا كيف تُدار الموارد، يصبح الخارج الفاعل الوحيد القابل للتخيّل.
---

رابعًا: المؤامرة كخطاب سلطة

لا تظلّ نظرية المؤامرة دائمًا خطابًا شعبيًا؛ إذ تتحوّل في كثير من الأحيان إلى أداة سياسية.
تُستخدم من أجل:

تحويل الغضب الشعبي نحو الخارج

تبرير الفشل والقمع باسم الأمن

تجريم النقد بوصفه اصطفافًا مع «العدو»


وفقًا لمفهوم الهيمنة عند أنطونيو غرامشي، لا تقوم السيطرة بالقوة وحدها، بل بالتحكّم في الخطاب. وفي هذا السياق، تتحوّل المؤامرة إلى لغة تضبط التفكير، وتحدّد ما يجوز قوله، وما ينبغي إسكاته.
---

خامسًا: ثقافة الضحية وإعادة إنتاج العجز

أسهم التاريخ العربي الحديث، بما فيه من استعمار وهزائم وفشل مشاريع النهضة، في ترسيخ هوية الضحية في الوعي الجمعي.
غير أن هذه الهوية، حين تتحوّل إلى تعريف دائم للذات، تفضي إلى نتائج خطيرة:

تبرير الفشل بدل تحليله

تعطيل المبادرة الفردية والجماعية

الخلط بين النقد والخيانة


فتصبح المظلومية سردية مريحة نفسيًا، لكنها غير منتجة سياسيًا، لأنها تفسّر الماضي من دون أن تفتح أفقًا للمستقبل.
---

سادسًا: بين الوعي النقدي والوعي التآمري

الوعي النقدي لا ينفي وجود تدخلات خارجية، لكنه:

يربط الخارج بالبنى الداخلية

يسائل الدولة والمؤسسات والنخب

يبحث عن إمكانات الفعل والتغيير


أما الوعي التآمري، فيحوّل السياسة إلى شكوى دائمة، ويستبدل الفعل بالاتهام، والتحليل بالصوت العالي. الأول صعب ومؤلم، لكنه منتج؛ والثاني سهل وجذّاب، لكنه عقيم.
---

خاتمة

إن المأزق العميق في الواقع السياسي العربي لا يكمن في وجود مؤامرات، بل في تحويل المؤامرة إلى تفسير كلي يعفي الذات من النقد والمساءلة. فالأمم لا تنهض حين تكتشف من يتآمر عليها، بل حين تمتلك الشجاعة للاعتراف بأخطائها، وتفكيك بنيتها، وإعادة بناء علاقتها بالسلطة والمعرفة والمسؤولية.

التحرّر الحقيقي يبدأ من الداخل.
أما المجتمعات التي تفسّر كل إخفاق بالخارج، فتبقى، مهما اشتدّ غضبها، معلّقة خارج التاريخ.

---

بقلم
الدكتور فريد جبور

التاريخ: 14 كانون الأول 2025

 

التعليقات

لا توجد تعليقات بعد.

أضف تعليقك

Copyrights © 2025 All Rights Reserved. | Powered by OSITCOM